أثارت تقارير صدرَت مؤخراً مخاوفَ عميقةً بشأن مدى الارتباط الوثيق بين منصة تيك توك (TikTok) وشركتها الأم الصينية بايت دانس (ByteDance)، وذلك رغم الادعاءات العديدة للمنصة بتمتّعها بالاستقلالية، وكان العديد من موظفي TikTok السابقين قد ادّعوا أن خدمات منصة التواصل الاجتماعي الشهيرة كانت وثيقة التشابك مع شركتها الأم الصينية ByteDance خلال فترة عملهم لديها، ما أثارَ شكوكاً جديةً حول تأكيدات المنصّة على عملها بشكلٍ مستقل.

ويوفر هذا الكشف لمنتقدي تيك توك -ممّن يتخوّفون من قدرة الحكومة الصينية على الاستفادة من التطبيق كأداة تجسّس ومراقبةٍ للمواطنين الأمريكيين- مزيداً من الذرائع لمحاربتها، نظراً لإمكانية وصولها إلى كميةٍ هائلةٍ من بيانات المستخدمين التي تجمعها. لذا فإن المخاطر تُعَد هائلةً وتستدعي ضغط المشرّعين الأمريكيين بقوة من أجل حظر تطبيق تيك توك في البلاد.

تأكيد موظفٍ سابق على المشاركة المتواصلة للبيانات مع ByteDance

شعار منصة TikTok تحت عدسة مكبّرة

تأتي أكثر الادعاءات إثارةً للقلق من إيفان تيرنر (Evan Turner) -مشرف البيانات السابق لدى تيك توك بين نيسان/أبريل وأيلول/سبتمبر من عام 2022- الذي صرّح لمجلة فورتشن (Fortune) بأنه على النقيض من ادعاءات منصة تيك توك العلنية بفصل بيانات مستخدميها عن الشركة الصينية الأم، إلا أنه كان يُطلب منه بانتظام إرسال سجلات بياناتٍ تزخرُ بمعلوماتٍ حسّاسةٍ حول مئات الآلاف من مُستخدميها الأمريكيين عبر البريد الإلكتروني إلى موظفي ByteDance في بكين.

وشملت هذه البيانات أسماء وعناوين بريدٍ إلكترونيّ وعناوين تواجدٍ على الإنترنت (IP) وتفاصيلَ جغرافيةً وبياناتٍ ديموغرافية، وهي ذاتُ نوعية المعلومات التي تعهّدت تيك توك بالاحتفاظ بها داخل الولايات المتحدة بعيداً عن متناول شركة ByteDance ضمن مبادرة “Project Texas” لمعالجة المخاوف التنظيمية. ويُعَد هذا الأمر مدعاةً للقلق -خاصّةً للأمن القومي الأمريكي- مع مطالبة كافة الشركات الصينية بتقديم المساعدة في أنشطة الاستخبارات الوطنية عند الحاجة، بما في ذلك مشاركة بياناتٍ حساسةٍ مع جهاتٍ حكومية.

وصرّح تيرنر أنه قام فقط بنقل تحديثات الحالة إلى أحد مسؤولي شركة ByteDance التنفيذيين في الصين ضمن الملخصات الأسبوعية، إلا أن نقل بيانات المستخدمين يتعارض مع التصريحات المُعلنة للشركة، وأضاف تيرنر: “لقد عملتُ -حرفياً- على مشروع قدّم بياناتٍ أمريكيةً للصين”، موضّحاً بأنهم “كانوا متواطِئين تماماً في ذلك، وقد كان هناك أمريكيون ممّن يشغلون مناصب إداريةً عليا متواطئين تماماً في هذا الأمر”.

يُذكر إحجام تيك توك عن التعليق على مزاعم تيرنر بشكلٍ مباشر، ورفضَتها باعتبارها “ادعاءاتٍ عاريةً عن الصحة تماماً وصادرةً عن موظفين سابقين ساخطين”، إلا أنها لم توفر دليلاً ينفي ادعاءاته المحدّدة.

طالعوا أيضاً: أكثر من 100 إحصاء لمنصّة TikTok في شهر أبريل 2024 – المستخدمون والربحية وغيرها

النظم البرمجية المشتركة تثير المخاوف

هناك مدعاةٌ أخرى للقلق أثارها موظفون سابقون، وتتمثل في الأنظمة البرمجية المشتركة بين تيك توك وByteDance، والتي قد توفر للموظفين الصينيين إمكانية الوصول إلى سجلات بياناتٍ حسّاسةٍ للمُستخدمين الأمريكيين، حيث استشهد باتريك سبولدينج رايان (Patrick Spaulding Ryan) -المدير الفني السابق للنظم الأمنية لدى TikTok- وموظفٌ سابقٌ آخرُ مقيمٌ في الولايات المتحدة بمنصة المراسلات الداخلية لارك Lark)) باعتبارها أحد الأنظمة التي يمكن لموظفي ByteDance مراقبتها.

ونظراً لقيام ByteDance بتشغيل منصة Lark، يدّعي موظفون سابقون احتمالية قيام أشخاص صينيين بمتابعة المناقشات الدائرة بين موظفي TikTok حول بيانات المستخدمين الأمريكيين، كما أشاروا إلى مطالبة موظفي تيك توك بتحميل تطبيق Seal -تطبيق مصادقةٍ وموفر شبكة اتصالٍ خاصّة (VPN)– على أجهزتهم الشخصية؛ وصرّح رايان بأن هذا التطبيق وفّر لشركة ByteDance منفذاً لتتبع أنشطة الموظفين الأمريكيين، رغم التصريح بأن الغرض منه هو حماية هويتهم وأنظمتهم.

كما صرّحت نيت ماتيما (Nnete Matima) -التي عملت في قسم تطوير الأعمال لدى كلٍّ من TikTok وByteDance- بأنها لم تتمكن من توفير إجاباتٍ مرضيةٍ لعملاء Lark المحتملين حول المكان الذي تخزّن فيه المنصة بيانات مستخدميها في دلالةٍ على الافتقار إلى الشفافية، موضّحةً ذلك بقولها: “لا يمكنكم الحصول على أية إجاباتٍ مباشرة مقنعةٍ بما يكفي للرجوع بها إلى العملاء بغرض إقناعهم بأنها منصّةٌ جديرةٌ بالثقة، وأنّ بيانات مستخدميها الأمريكيين تُعتبر آمنةً بالفعل”.

وفي حين نفى أحد خبراء الأمن السيبراني -ممّن أجرت معهم مجلة Fortune مقابلة- لهذه الادعاءات زاعماً أنها محض “تخيلاتٍ مبالغٍ فيها”، أعربَ آخرون عن مخاوفهم بشأن هذه الممارسات باعتبارها غيرَ صحيةٍ، حيث وصف أنطون داهبورا (Anton Dahbura) من جامعة جونز هوبكنز (Johns Hopkins) المشاركة المزعومة للبيانات بأنها “مقلقةٌ جداً”، محذّراً من أنّ المعلومات التي قد تبدو عفويةً -كبيانات التوزّع الجغرافيّ- يمكن استخدامها لأغراض سيئةٍ جداً، مشدّداً على أنه “رغم تمثيل الإحصاءات البيانية -ربّما- نسبةً ضئيلةً جداً من المعلومات التي تجمعها TikTok، إلا أنها قد تكون مُستهدفةً ومضرّةً للغاية بالنسبة لأشخاص معينين”.

منصّة تيك توك تواجه احتمالاً قوياً بالتعرض للحظر الوشيك

قدّمت هذه الاعترافات المزيد من الأسباب الوجيهة للمشرّعين الأمريكيين الذين يضغطون باتجاه فرض حظرٍ شاملٍ على تيك توك في البلاد.

ففي آذار/مارس الفائت، صوّت مجلس النواب بأغلبية 352 صوتاً مقابل 65 على مشروع قانونٍ يُجبر شركة بايت دانس (ByteDance) على بيع حصّتها في التطبيق لشركةٍ غير صينية، وهو الإجراء الذي سبق للرئيس بايدن التعهّد بإقراره حال وصوله إلى مكتبه.

ويتوقع خبراء السياسة الأمريكية الآن أن تتم الموافقة على قانون الحظر من قِبَل مجلس الشيوخ أيضاً، كما أن مجتمع الإنترنت يبدو موافقاً كذلك على هذا الإجراء، نظراً لارتفاع نسبة توقعات العامّة -بحظر تيك توك أو بيعه- إلى 75% بعد التقارير الأخيرة الصادرة عن موظفين سابقين حول مشاركة بيانات مستخدمي التطبيق مع شركة ByteDance.

إضافةً إلى ذلك، فقد أدى التدقيق المتزايد لاتخاذ إجراءاتٍ تنظيميةٍ تجاه تيك توك. ففي أواخر آذار/مارس الماضي ذكرت صحيفة بوليتيكو (Politico) أن هيئة التجارة الفيدرالية (FTC) كانت تنظر في تقديم تيك توك “بياناتٍ معطوبةً وممارساتٍ تمسّ أمن البيانات” بما في ذلك ادعاءاتٌ بأن الشركة خدعت المستخدمين بإنكارها إتاحة وصول الحكومة الصينية إلى بياناتهم، وانتهاك قانون خصوصيّة الأطفال.

القوانين الصينية تجبر الشركات على الارتباط مع الحزب الشيوعي الصيني (CCP)

تأتي المخاوف بشأن العلاقات الوثيقة بين الشركة الأم ByteDance من جهة والحكومة الصينية والحزب الشيوعي الصيني (CCP) من جهةٍ أخرى لتدعم الشكوك المرتبطة بممارسات تيك توك (TikTok) الخاصّة بالبيانات، حيث أشارت العديد من التقارير إلى أن الحزب الشيوعي الصيني يتمتع بحضورٍ كبير داخل شركة ByteDance كما هو الحال مع معظم الشركات الصينية الكبرى، ما يزيد من احتمالية مشاركة البيانات الأمريكية الحسّاسة مع الحكومة الصينية.

وفي هذا السياق، أشار موقع أكسيوس (Axios) إلى وجود ثلاثة قوانين في الصين تجبر الأفراد والمنظمات والشركات على التعاون مع الحزب الشيوعي الصيني، تصل إلى فرض تواجدٍ للحزب داخل صفوفهم بهدف جمع المعلومات الاستخبارية ومساعدة البلاد على حماية أمنها القومي.

وقد أثار وجود هذه القوانين مخاوفَ من أن بايت دانس (ByteDance) -وهي شركةٌ مقرُّها بكين- قد تكون ملزمةً بمشاركة بيانات مستخدمي تيك توك مع الحكومة الصينية عند الطلب، حتى وإن كانت البيانات مخزَّنةً على خوادمَ في الولايات المتحدة أو في أيّ مكانٍ آخر.

اقرؤوا أيضاً: متجر تيك توك (TikTok Shop): هل هو منجم الذهب الذي كانت التجارة الإلكترونية بانتظاره؟

وكانت مشاركة كبار موظفي شركة ByteDance في نشاطات تيك توك مثارَ جدلٍ أيضاً. فوفقاً للدعوى القضائية التي رفعتها كاتي بوريس (Katie Puris) -الموظفة السابقة في تيك توك- فقد ترأس Lidong Zhang -مدير شركة ByteDance- اجتماعاتٍ نصف شهريةٍ منتظَمةٍ مع المدراء التنفيذيين في TikTok، وهو ما يقوّض مزاعم المنصة حول استقلاليتها.

وزعمت بوريس في شكواها أنه “رغم محاولاتها لأن تبدو مستقلةً، إلا أن قرارات الإدارة والأعمال اليومية لمنصة تيك توك كانت تأتي مباشرةً من الإدارة العليا لشركة ByteDance في الصين”.

التداعيات المحتملة لتورّط شركة ByteDance المؤكَّد مع الحزب الشيوعي الصيني

إذا اقتنع مجلس الشيوخ والرئيس الأمريكي بالأدلة المتوفرة -سواء كانت قاطعةً أم لا- فمن المحتمل أن يكون مصير منصة تيك توك البيعَ الإجباري أو حتى الحظر. وسيكون حظر المنصة في الولايات المتحدة بمثابة ضربةٍ ماليةٍ كبيرة لشركة ByteDance لأنه سيحرمها مباشرةً من أحد أكبر أسواقها وأكثرها ربحاً.

وحتى لو نجحت بتجنّب الحظر، فإن هذه الاعترافات من شأنها أن تطيح أيضاً بجهود منصة تيك توك للنأي بنفسها عن الشركة الأم ByteDance والظهور بمظهر الكيان المستقل، وهو ما قد يؤدي إلى تقويض مصداقية الشركة لدى كلٍّ من المستخدمين والجهات التنظيمية، ما سيزيد من صعوبة إقناع المستخدمين بأن بياناتهم وخصوصيتهم آمنةٌ ومحميةٌ كما ينبغي.

علاوةً على ذلك، فمن المرجّح أن يؤدي الكشف عن هذه العلاقات المزعومة إلى تشديد التدقيق والتحقيقات من قِبَل السلطات الأمريكية، ما قد يؤدي إلى فرض غراماتٍ أو إجراءاتٍ قانونيةٍ أو غيرها من التدابير العقابية، الأمر الذي قد يؤدي إلى انحسار ثقة الجمهور في المنصة وجعل الولايات المتحدة بيئةً صعبةً لنشاطات منصة تيك توك (TikTok).

إذاً، مع تصاعد الضغوط التنظيمية وتزايد الادعاءات الواردة من الموظفين السابقين في تيك توك، فإن مستقبل هذه المنصة في السوق الأمريكية يبقى مجهولاً. وستلعب قدرةُ الشركة على إقناع المشرِّعين والجمهور باستقلاليتها وممارساتها المتعلقة بأمن البيانات دوراً حاسماً في تحديد مدى قدرتها على الصمود في وجه هذه العاصفة التي تزداد شدّتها يوماً بعد يوم.