رأس إنسان يظهر منه الدماغ وقد ركبت عليه شريحة ويدان تمسكان أداة وتقومان بتوصيل الأسلاك بالشريحة

لقد كان حلم إيلون ماسك (Elon Musk) منذ عقود هو إنشاء “سايبورج” حقيقيّ” (كائنٌ هجينٌ بين الإنسان والآلة) عبرَ الجَمع بين الدماغ البشريّ والذكاء الاصطناعي من خلال واجهاتٍ مستقبليةٍ تربط بين الدماغ والحاسوب، ولتحقيق هذا الهدف الطموح، أطلق شركته المثيرة للجدل نيورالينك (Neuralink)، والتي حققت بالفعل العديد من الإنجازات المذهلة حتى الآن.

وقد تمَّ بالفعل اتخاذ خطواتٍ مثيرةٍ نحو تحقيق هذا الهدف، ومنها تركيبُ أول شريحةٍ دماغيةٍ في دماغ إنسانٍ مريضٍ في شباط/فبراير من هذا العام، في إنجازٍ أقربُ ما يكون إلى الخيال العلميّ.

اقرأ أيضاً: تعرّفوا على صافي ثروة إيلون ماسك – مالك X (تويتر) والمتحمّس لعملة Doge؟

وعلى الرغم من عدم مشاركة حيثيات العملية والنتائج الإجماليّة التي أحدثتها على قدرات المريض بالتفصيل، إلا أن هذا الإعلان كان مهمّاً بحد ذاته، إذ دفع المجتمع الطبيّ وعامة الناس للتساؤل عمّا إذا كنا نقترب أكثر من رؤية هذا النوع من التكنولوجيا يتم استخدامها وتسويقها على نطاقٍ أوسع.

في هذه المقالة، سنقدم المزيد من التفاصيل حول جهود شركة Neuralink نحو تحقيق مهمتها الرائدة: ما تم إنجازه حتى الآن وما هو متوقّعٌ في المستقبل.

ما الذي حققته شركة نيورالينك حتى الآن؟

تأسّست شركة Neuralink عام 2016، وتعمل منذ ذلك الحين على تطوير غرساتٍ دماغيةٍ متقدّمةٍ من شأنها مساعدة المرضى الذين يعانون من إعاقاتٍ وإصاباتٍ عصبيّةٍ على استعادة قدرات الرؤية والحركة والتواصل. وفي حال النجاح بجمع ما يكفي من البيانات الكافية والصحيحة من دماغ المريض، فقد يصبح من الممكن استخدام موجات الدماغ للتحكم في الأطراف الاصطناعية أو حتى التحكم بحاسوب ما. ومع ذلك، فإن طموحات المشروع تتجاوز مجرّد التطبيقات الطبية، حيث أعلن ماسك عن رغبته في الجمع بين الإنسان وأنظمة الذكاء الاصطناعي المتقدمة لتجنّب “تخلف البشر عن مجاراة التقدم”، وقال حول ذلك: “مع نطاق ترددٍ عالٍ، وواجهة ربط بين الدماغ والآلة، يُمكننا بالفعل المضيّ قدُماً في هذه الرحلة”.

وبعد سنواتٍ تم خلالها توظيف أفضل الكفاءات في مجال علم الأعصاب وإجراء الاختبارات على الحيوانات، وصلت شركة نيورالينك (Neuralink) إلى لحظةٍ فارقةٍ خلال العام الماضي، عندما حصلت على موافقة إدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA) لبدء زرع أجهزتها في أجسام المشاركين في التجارب السريريّة البشرية، وفي 28 كانون الثاني/يناير الماضي، أعلن ماسك عن إجراء الجراحة الأولى من هذا النوع بنجاح.

وقال ماسك على منصّة التواصل الاجتماعي X التي يملكها: “لقد خضَع أولُ إنسانٍ لعملية زرعٍ الشهر الماضي في شركة Neuralink، وهو يتعافى الآن” وأضاف:”تظهر النتائج الأولية زيادةً واعدةً في نشاط الخلايا العصبية”.

ومع أنّ البيان الموجز لماسك لم يَخُض في التفاصيل، إلا أن الخبراء يقولون إن زراعة جهازٍ في إنسانٍ مريضٍ بأمانٍ يُمثل بحدّ ذاتِهِ إنجازاً هائلاً بعد عقودٍ عديدة من أبحاث واجهات ربط الدماغ والحاسوب (BCI) في المختبرات والمشاريع الناشئة حول العالم.

وقال روبرت جاونت (Robert Gaunt)، الأستاذ المشارك في جامعة بيتسبرج: “إن زرَع جهاز في جسم شخص ما ليس بالأمر الهيّن”، وأضاف: “لكنّني أعتقد أن إيلون ماسك ما كان ليُطلق مشروعاً كهذا لولا الأبحاث والقدرة المُثبَتة على مدى عقودٍ في علم الأعصاب”. كذلك، فإن إدارة الغذاء والدواء الأمريكية لم تكن لتوافق على التجربة لولا أنها آمنةٌ نسبياً للمريض.

مفاهيم وأفكار “الخيال العلمي” تقتربُ من الواقع

لقد تابع الباحثون منذ فترة طويلةٍ فكرة واجهات الربط بين الدماغ والحاسوب (BCIs) التي يمكنها تحليل النبضات الكهربائية التي تولدها الخلايا العصبية لتفسير أفكار ونوايا الإنسان وربّما التحكم فيها.

وقد بدأت الأبحاث في هذا المجال بالذات في تسعينيات القرن الماضي، عندما أثبت العلماء أنه يمكن استخدام الأجهزة المزروعة في جسم الإنسان لجمع الإشارات العصبية وترجمتها إلى تعليماتٍ تُستخدم للتحكم في الأطراف الآلية وواجهات الكمبيوتر.

وفي عام 2004، حدَث تقدمٌ كبيرٌ في هذا المجال عندما تم زرعُ شريحة Utah Array -المزوّدة بعدد كبيرٍ من الأقطاب الكهربائية الرفيعة التي تخترق الدماغ- لأوّل مرّةٍ في جسم إنسانٍ مشلولٍ، وسمح له ذلك بالتحكم في مؤشر الكمبيوتر عن طريق النشاط العصبيّ.

منذ ذلك الحين، قامت المشاريع البحثية وعمالقة التكنولوجيا -مثل منصات ميتا Meta Platforms (META)– باستكشاف إمكانيات وتطبيقات واجهات الربط بين الدماغ والحاسوب (BCIs)، وتوفير الموارد للمشاريع الناشئة والمُختبرات التي تركّز على دراسة وتطوير منتجاتٍ عمليةٍ يمكنها المساهمة في تحقيق هذا النوع من الإنجازات.

مع ذلك، تبقى التطبيقات العلاجية لـ BCI مجرّد خطوةٍ أولى بالنسبة لماسك. فرؤيته الأكثرُ عمقاً تتمحور حول ما يسميه “التهديد الوجوديّ” الذي يمثّله الذكاءُ الاصطناعيّ للبشرية، فهو يعتقد أن على المجتمع والحكومات والشركات أن تكون أكثرَ حذراً بشأن الكيفية التي يمكن أن ينقلب بها الذكاء الاصطناعي ضد الإنسانية إذا خرجت هذه التكنولوجيا عن نطاق السيطرة. ولكي نكون مستعدين لمثل هذا التطوّر، فإن تحقيق “دمج الإنسان بالآلة” من شأنه أن يمنحنا قدرة الحفاظ على هيمنتنا كجنسٍ بشريّ، ووصف ماسك هذه المهمة بأنها “ذات أهميةٍ على مستوى الجنس البشريّ”.

كذلك يرى الخبراء أن التقدم الذي حققته شركة نيورالينك يُظهر أن البشرية ما تزال على مسافةٍ كبيرة من تحقيق هذا النوع من الدمج، فضلاً عن المخاطر التي ينطوي عليها إجراءُ جراحةٍ لزرع هذه الأجهزة في الدماغ، والتي قد لا تكون مُجديةً بالنسبة لكثير من الناس، على الأقلّ في هذه المرحلة.

وعلقت آن فانهوستنبرج (Anne Vanhoestenberghe) -الأستاذة في جامعة كينجز كوليج في لندن- قائلةً: “عليكم أن تسألوا أنفسكم، هل ستخاطرون بإجراء عمليةٍ جراحيةٍ في الدماغ لمجرّد أن تتمكنوا من طلب بيتزا على هاتفكم؟”، وأضافت: “الأمر ليس جديداً، لكنّ التكنولوجيا القابلة للزرع تستغرق وقتاً طويلاً لتنضج وتصلَ إلى مرحلةٍ تمتلك فيها الشركات جميع قطع الأحجية، وتبدأ بتجميعها معاً”. وهكذا، فقد لا تكون نيورالينك هي الشركة التي ستنجح بإنشاء نوعٍ جديد تماماً من البشر دفعةً واحدة، لكن ربّما تكون على الأقل نقطة انطلاقٍ مهمّة.

محاولات شركة نيورالينك لزراعة أول شريحةٍ تواجه بعض التحديات

تقف مهمة تقليص جميع المكوّنات اللازمة ليتم وضعها في جهاز صغير يمكن زراعته جراحياً في الدماغ البشري بأمانٍ عقبةً في طريق مدينة إيلون ماسك الفاضلة (أو الفاسدة وفقاً لوجهة نظر البعض).

وفيما تحقق تقنيات واجهة الدماغ والحاسوب تقدماً ملحوظاً، تسعى شركة نيورالينك ((Neuralink إلى إعادة تشكيل النظام بأكمله من خلال الجراحة التي تمت بواسطة روبوتٍ لتركيب شريحةٍ بحجم عملةٍ يمكنها إرسال البيانات العصبية لاسلكياً بعد إدخالها من خلال ثقب صغير في الجمجمة.

وتعتمد هذه المحاولة على أقطاب نيورالينك “الخيطية”، وهي خيوطٌ عصبيةٌ برفع الشعرة تحتوي على 16 مستشعراً موزّعةً على طولها تستهدف الخلايا العصبية والمشابك العصبية الخاصّة داخل الدماغ بدقة.

وتحتوي شريحة N1 على 64 من هذه الخيوط ما يمنحنها القدرة على مراقبة أكثرَ من 1,000 قناة مختلفةٍ للنشاط العصبي. بالطبع، لم يكن من السهل تحقيق هذا الإنجاز الضخم حتى أن ماسك قارن جهود الشركة بمحاولات الأخوين رايت the Wright brothers)) عندما كانوا يستعدّون لأول رحلة طيرانٍ لهما.

يُذكر أنه في عام 2019، كشف تحقيقٌ فيدراليٌّ عن إبلاغ السلطات بإجراء الشركة العديد من “الجراحات الضارّة” على الحيوانات. وبحسب ما ذكرته وكالة رويترز آنذاك، تضمّنت إحدى الجراحات إغلاق جمجمة قرد بواسطة موادّ غير صالحةٍ لهذا الاستخدام.

ولكن على الرغم من كشف التحقيق -الذي أجرته وزارة الزراعة الأمريكية (USDA)- أنه لم يكن هناك خرقٌ للقوانين، أوضحت الأدلة التي رصدتها وكالة رويترز أن ما لا يقلّ عن 86 خنزيراً وقردَين تعرّضوا للضرر في إطار خضوعهم للتجارب من قِبل الشركة بسبب أخطاء بشريةٍ متكرّرة. وفي نهاية عام 2022، بدأت التقارير تكشف عن تقديم الموظفين شكاوى ضد الشركة بسبب الضغوط التي يتعرّضون لها فيما يتعلق بمواعيد التسليم النهائية.

بالرغم من ذلك، فقد استمرّت مساعي الشركة في هذا الاتجاه إلى أن حققت تقدماً في أيار/مايو 2023 بعد أن منحتها إدارة الأغذية والعقاقير (FDA) موافقةً لاختيار المشاركين في أوّل تجربةٍ سريريةٍ على البشر لتقييم مدى سلامة زرع الشريحة وإجراء الجراحة بواسطة الروبوتات، بالإضافة إلى اختبار وظائف نقل بيانات الدماغ.

واشتمل المرشحون المثاليون على الأشخاص الذين يعانون من شلل رباعيّ ناتج عن إصاباتٍ في الحبل الشوكيّ أو يعانون من أمراض عصبيةٍ مثل التصلب الجانبي الضموريّ (ALS).

اقرأ أيضاً: هل تُسهم سلوكيات الملياردير إيلون ماسك في تراجع احتمالات شراء سيارات تسلا؟

وبعد أكثر من ستة أشهر عن ذلك التوقيت، كشفَ ماسك عن أنّ عملية الزراعة الأولى قد تمت بنجاح وأنها تمثل نقلةً نوعيةً في سبل تطوير دمج الإنسان بالآلة؛ فقد خضع المريض نولاند أربوغ (Noland Arbaugh) المصاب بشللٍ رباعيّ بعد تعرّضهِ لحادِث غطس في عام 2016 لهذه الجراحة، وأبدى سعادته البالغة بقدرته على التحكم في الكمبيوتر بأفكاره فقط، حتى أنه عاد إلى لعب الشطرنج مرّةً أخرى.

كذلك، تضمّنت تصريحات ماسك الغامضة بشأن نتائج العملية بياناً قال فيه إن ثمّة “اكتشافاً واعداً لنشاط الخلايا العصبية” في إشارة إلى قدرة هذ الشريحة على التقاط ونقل الإشارات بنجاح من الخلايا العصبية الموجودة بالقرب من خيوط الجهاز.

وأظهرت الشركة تسجيل فيديو لأربوغ وهو يتحكم بجهاز الكمبيوتر بعد أن زرَع الشريحة في دماغه وكذلك وهو يلعب ألعاباً على الحاسوب. ولكن فيما بعد، تمّ الإبلاغ عن انخفاض في كمية البيانات التي تُرسلها الشريحة إلى المخ؛ ويبدو أن بعض الخيوط التي زُرعت في رأس أربوغ بدأت تتحرّك وتنفصل عن مواقعها، فيما لم يتم الكشف عن السبب وراء هذا.

وأخبر أربوغ موظفي نيورالينك خلال اجتماع في الأول من شهر آذار/مارس: “بالتأكيد، لا يزال لدينا بعض الأمور التي يجب تجاوزها وتحسينها. ولكن بمجرّد أن نحلَّ هذه المشكلة، فلا يوجد سببٌ لعدم وجود [مثل هذه الشريحة] في السوق”.

اكتشاف النشاط العصبيّ يُعَد إنجازاً عظيماً، ولكنّه لا يخلو من التحديات

يمثل الحصول على “إشارات النشاط العصبيّ” الوظيفية عقبةً رئيسيةً وخطوةً مهمّةً لإثبات فعالية الواجهات العصبية لنيورالينك. ولكن وفقاً للخبراء، تُعَد هذه واحدةً من الأهداف العديدة التي يجب إنجازها من أجل إنشاء اتصالٍ فعليّ عالي الأداء.

وفيما يخص هذا التقدم، صرّح الأستاذ جاونت (Gaunt) قائلاً: “يدل هذا الإنجاز في جوهره على عمل الشريحة بقدرٍ لا بأس به من الكفاءة”. وبالإضافة إلى تحسين الخوارزميات لفك شفرات أنماطٍ عصبيةٍ أكثر تعقيداً، يجب على الشركة التغلب على تحدياتٍ تقنيةٍ كبيرة مثل:

  • طول عمر الشريحة وقدرتها على البقاء متصلةً بشكلٍ آمنٍ مع مرور الوقت.
  • منع رفض مناعة الجسم للشريحة أو تشكيلها ندباتٍ يمكن أن تعطل الإشارة (أو تؤذي المريض)
  • زيادة عدد قنوات الإدخال لنقل بياناتٍ أعلى.

في الإطار ذاته، كشف ماسك عن أنّ التجربة الأولى تهدف إلى استعادة المرضى المصابين بالشلل وظائف رقميةً أساسيةً مثل السماح لهم بالتحكم في واجهات الكمبيوتر أو الهواتف الذكية بدون استخدام اليدين ويبدو حتى الآن أنها ناجحةٌ تماماً.

اقرأ أيضاً: أكبر عشر شركاتٍ لصناعة الأجهزة الطبية من حيث القيمة السوقية

وتتضمّن الأهداف المستقبلية أيضاً تمكين المرضى من تشغيل الأطراف الصناعية الروبوتية أو حتى إعادة تنشيط عضلاتهم بواسطة التوجيه العصبيّ. وتابع ماسك قائلاً: “تخيل لو استطاع ستيفن هوكينج (Stephen Hawking) التواصل بسرعةٍ أكبرَ من سرعة الكتاب أو المزايدين مثلاً، هذا بالضبط ما نطمح إليه”.

الأبطال الخارقون بالذكاء الاصطناعي: خيارٌ غير مطروح حتى الآن على أقلّ تقدير

على الرغم من تباين ردود أفعال المجتمع العلمي والتكنولوجيا الحيوية حيال إنجازات شركة نيورالينك، اتفق معظمهم على أنه يظل إنجازاً يستحق الاحتفال به حتى وإن بقيت هناك تحدياتٌ هائلة.

مع ذلك، ألمح الدكتور ديفيد براندمان (David Brandman)، المدير المشارك لمختبر UC Davis Neuroprosthetics، إلى أنه “لا يزال من المبكر جداً التحدث عن [دمج الدماغ والذكاء الاصطناعي]”. وأضاف: “هناك أشخاصٌ بحاجةٍ إلى مثل هذه الشرائح، وأيّ تركيز على ماذا لو وماذا يمكن أن يحدث يعرّضهم للخطر”.

جديرٌ بالذكر أن فريق براندمان يُعَد واحداً من الفرق العاملة على تطوير واجهات ربط “الدماغ بالحاسوب” أو “الدماغ بالآلة” لتمكين الأشخاص الذين يعانون من الشلل والاضطرابات العصبية من استعادة قدرتهم الحركية.

وأكد الباحثون أنه -إلى الآن- لا توجد أدلةٌ ملموسةٌ على أن هذه الشرائح يمكن أن تحسّن من وظائف أو قدرات البشر العاديين. واختتم جاونت حديثه بالقول: “فكرةُ أن هذه الأجهزة ستسمح لنا بامتلاك أيّ نوع من القدرات الخارقة تُعَد مجرّد خيالٍ علميّ في هذه المرحلة”.

بوجهٍ عام، يبدو الطريق أمام مهمة نيورالينك طويلاً ومليئاً بالتحديات من الناحية التقنية والتنظيمية والمجتمعية. ومع ذلك، تستحق الإنجازات التي ستحققها هذه الشرائح للجنس البشريّ العناء المبذول لتطوير هذه التكنولوجيا.