واجهة مبنى المحكمة العليا في الولايات المتحدة

من المرجّح أن تتم إعادة تعريف مفاهيم حرية التعبير عبر الإنترنت بسبب قيام المحكمة العليا في الولايات المتحدة بدراسة قوانين أعدّتها ولايتا فلوريدا وتكساس الأمريكيتان للحدّ من قدرة منصات التواصل الاجتماعي على إدارة المحتوى؛ وبالنظر لمعارضة المشرّعين الجمهوريين لأوجه التحيز الملحوظة في منصات التواصل الاجتماعي، يترقب مستخدمو الفضاء الرقمي قرار المحكمة بفارغ الصبر. فهل سيتم وضع حدٍّ للصلاحيات المطلقة التي تتمتع بها منصات التواصل الاجتماعي، أم سيتم تأكيد هيمنتها مجدداً؟ ويُرجّح أن يكون للأحكام القضائية المُنتظرِ صُدورها في هذه القضية أكبر قدرٍ من التبعات خلال العقد الحالي.

والآن، دعونا نستطلع سويةً تفاصيل هذه القضية التي قد تتسبّب بتغيير طرق مشاركة الآراء والتحاور والتواصل عبر الإنترنت، ما يضع مستقبل حرية التعبير داخل الفضاء الرقمي على المحك.

تفاصيل القضية

القضيتان قيدَ الدراسة حالياً هما قضية المدعية العامة مودي (Moody) ضدّ جمعية نت تشويس (NetChoice, LLC) في ولاية فلوريدا وقضية NetChoice, LLC ضدّ المدعي العام باكستون (Paxton) في تكساس؛ وفحوى هاتين القضيتين هو قوانين الولايتين المتعلقة بمعايير ضبط إدارة المحتوى من قبل موفري خدمات التواصل الاجتماعي. وقد تم إعداد هذه القوانين من قبل سياسيين جمهوريين، ومنها مشروع قانون مجلس الشيوخ لولاية فلوريدا رقم 7072 ومشروع قانون مجلس النواب لولاية تكساس رقم 20.

وفيما تهدف هذه القوانين للتعامل مع ما يراه البعض تعاملَ شركات التواصل الاجتماعي مع الآراء المحافظة بشكلٍ يفتقر للإنصاف، يُعزى الجزء الأكبر من هذه المشكلة إلى حظر نشر المحتوى المرتبط بجائحة كوفيد 19 -مثل التشكيك بجدوى ارتداء الكمامات ودواعي الحجر الصحيّ وسياسات الامتثال لأخذ اللقاحات- فضلاً عن حظر محتوى سياسيٍّ خالصٍ كقصة حاسوب هانتر بايدن (Hunter Biden) المحمول.

كما حرِصَت جهات إدارة منصات التواصل الاجتماعي على حظر المحتوى المرتبط بفرضية “التسرّب المخبريّ” لفيروس كوفيد 19، بالرغم من أنه قد تبيّن لاحقاً أنها السيناريو الأرجح لمنشأ الجائحة، بحسب بعض الهيئات الحكومية الأمريكية والعديد من خبراء القطاع الصحي.

الدوافع والتبعات القانونية

أعدّت هذه القوانين بنيةً تمنع منصات التواصل الاجتماعي من إسكات أو حظر حرية التعبير للمستخدمين بشكلٍ جائرٍ تبعاً لآرائهم السياسية، ما يمثل مثاراً لنقاشٍ موسَّع حول ضمان تحوّل منصات التواصل الاجتماعي إلى ساحاتٍ تتيح لكافة المستخدمين مشاركة آرائِهم بحرية، كما تعكس هذه القوانين تصاعد المطالبات التي تدعو هذه الشركات للتحلي بالشفافية والإنصاف حول آلية تحديد المحتوى الواجب حظره أو إتاحته.

خلافاتٌ جوهرية وتحدياتٌ قانونية

تتمثل المشكلة الرئيسية في القضيتين المشار إليهما بدور منصات التواصل الاجتماعي في كيفية ممارستنا لحياتنا، وما إذا كان يتعيّن على الحكومة التدخل لضمان تعامل هذه المنصات مع كافة الآراء بنزاهة؛ إذ تمثل قوانين ولايتي فلوريدا وتكساس تحدياً للطريقة المُعتادة للتعامل مع نشر المحتوى من قبل شركات التواصل الاجتماعي، كما تدعو لفرض نظام يوجب التعامل مع كافة الخطابات السياسية بإنصافٍ ودون تحيز.

السياق الأوسع لهاتين القضيتين

لا يمكن الحديث عن تقييم المحكمة العليا للقضيتين على أنهما مجرّد مداولاتٍ قضائية، وإنما يتعلق الأمر بكيفية استيعاب مبادئ حرية التعبير وتعقيداتها إلى جانب فرض قوانين ناظمةٍ لاستخدامات الإنترنت والتعامل معها باعتبارها ساحةً تتيح للجميع مشاركة آرائهم بحريةٍ تامةٍ؛ ويستلزم تعامل المحكمة العليا مع هذه المسائل النظرَ في التحدي المتمثل بتحقيق قدرٍ من التوازن بين حماية حرية التعبير ومنع انتشار المعلومات المغلوطة أو المؤذية مع احترام استقلالية الشركات الرقمية الخاصة.

آراء قضاة المحكمة العليا

لدى قيام هيئة المحكمة بتدقيق تشريعات ولايتي فلوريدا وتكساس حول معايير تنظيم عمل منصات التواصل الاجتماعي، أبدى القضاة آراءً مختلفةً، حيث عكست تعليقاتهم وأسئلتهم خلال المرافعات الشفوية تباين وجهات نظرهم إزاء كيفية الموازنة بين مبادئ حماية حرية التعبير الواردة في التعديل الأول (First Amendment) وحرص الولايتين على فرض معاييرَ ناظمةٍ لعمل منصات التواصل الاجتماعي.

وأبدت القاضية سوتومايور (Sotomayor) مخاوفَها إزاء إمكانية تسبّب هذه القوانين بزيادة صعوبة مهمة حفاظ هذه الشركات على أمان وسمعة منصاتها، كما أشارت إلى أن هذه القوانين تُمعن بتوفير صلاحياتٍ لهذه الشركات وتُعزّز من سطوتها تجاه السماح بالمحتوى أو منعه.

كما أكد القاضي كافانا (Kavanaugh) على أهمية مبدأ حرية التعبير، مشيراً إلى احتمال تأثير هذه القوانين على حقوق حرية التعبير عبرَ هذه المنصات وانتقاء المحتوى التي تسمح بنشره.

وفي المقابل، أبدى القاضي جورساتش (Gorsuch) تفهمه للانتقادات الموجّهة لشبكات التواصل الاجتماعي مستشهداً بالمادة 230، ومؤكداً على أهمية توافر قوانين كهذه للشركات العاملة في فضاء الإنترنت لحمايتها من المساءلة القاونونية بخصوص المحتوى المنشور من قبل المستخدمين عبر مواقعها باستثناء بعض الحالات، كما رجّح أن يحول هذا القانون دون فرض الولايات -منفردةً- قيوداً على إدارة المحتوى من قبل منصّات التواصل الاجتماعي.

بدورهما، أبدا عضوا الهيئة القضائية للمحكمة العليا توماس (Thomas) وأليتو (Alito) اهتمامهما بسماع تبرير مشرّعي الولايتين لجدوى هذه القوانين، كما أشارا إلى احتمال وجود طريقةٍ لتنظيم هذه المنصّات دون انتهاكٍ لحقوق حرية التعبير.

النتائج المحتملة وتأثيراتها

يُمثل قيام المحكمة العليا بدراسة هاتين القضيتين حول قوانين إدارة المحتوى من قبل منصات التواصل الاجتماعي منعطفاً بالغ الأهمية، نظراً للنتائج العديدة المحتملة التي سيترتب عليها تبعاتٌ مؤثرةٌ في كيفية عمل شركات التواصل الاجتماعي وصنّاع المحتوى والمستخدمين.

توجّهات المحكمة العليا المحتملة

  • إصدار حُكم حاسم: قد تُصدر المحكمة حُكماً صريحاً بدعم هذه القوانين أو برفضها، ما قد ينتج عنه فرض معاييرَ جديدة في كيفية التعامل مع محتوى منصات التواصل في الولايات المتحدة.
  • الرجوع للمحاكم الأدنى: يمكن لهيئة المحكمة العليا إصدار قرارٍ بإحالة القضيتين إلى المحاكم ذات الدرجة الأدنى لتعيد النظر فيها بشكلٍ موسّع، ما قد يعني تواصل الضجّة والصخب حول هذه القوانين لفترة طويلة.
  • تبني نهج متوازنٍ بدقة: قد لا تدعم المحكمة أياً من طرفي النزاع، بل قد توفر تعليماتٍ محددةً حول كيفية التعامل مع المحتوى المنشور عبر الإنترنت، في محاولةٍ منها للموازنة بين حرية التعبير والحاجة إلى تنظيم عمل المنصّات بقدرٍ معيّن.

التداعيات المحتملة على شركات التواصل الاجتماعي

من المرجّح أن يتسبَّبَ إصدار المحكمة لقرار حاسم أو تبنيها لنهج محايد بتأثيراتٍ كبيرة على إدارة المحتوى من قبل هذه المنصات، ما قد يُلزمها بتعديل سياساتها وممارساتها للامتثال للمعايير القانونية الجديدة، الأمرُ الذي يقتضي منها تحرّي الشفافية بشكلٍ أكبرَ وتعديل الخوارزميّات المسؤولة عن تحديد المحتوى الجائز نشره أو وضع آلياتٍ جديدة لتعديل المحتوى بما يُرضي الجهات الرقابية. ومن المرجّح أيضاً أن تكون القوانين الجديدة غير قابلةٍ للتطبيق، حيث يُمكنها السماح بتعرّض حتى مواقع الإنترنت العادية للمسؤولية عن المحتوى المنشأ من قبل المستخدمين.

التبعات المُحتملة على صنّاع المحتوى والمستخدمين

يُرجّح أن تؤثر نتيجة هذه القضية على صنّاع المحتوى والمستخدمين بسبب القيود المُحتمل فرضُها على المحتوى الذي يمكن مشاركته ومناقشته عبر المنصات؛ وقد يتسبّب حكمٌ قضائيٌّ يقضي بتقييد ممارسات إدارة المحتوى بجعل الويب أكثرَ انفتاحاً وأكثرَ إثارةً للجدل بذات الوقت؛ وفي المقابل، قد يتسبّب حكمٌ يدعم مراقبة المحتوى بالحدّ من حرية التعبير عبر الإنترنت، إلا أنه قد يُفضي إلى تجربة استخدامٍ أكثرَ أماناً وتنظيماً.

ختاماً

من المرجّح أن يتسبّب قرار المحكمة الوشيك حول قوانين إدارة محتوى منصات التواصل الاجتماعي بتغيير وجه فضاء الإنترنت واستخداماته؛ فقد يتسبّب قرارٌ حاسمٌ يدعم أو يرفض هذه القوانين بإلزام عمالقة منصات التواصل الاجتماعي بتعديل طرق إدارة المحتوى، الأمر الذي قد لا يقتصر تأثيره على المنصّات وحدها، وإنما يمتد ليشمل كافة المستخدمين وصنّاع المحتوى.

وعليه، يُعتبر هذا القرار بالغ الأهمية لكافة المشاركين بالفضاء الرقميّ نظراً لإمكانية إتاحته إجراء حواراتٍ أكثرَ انفتاحاً عبر الإنترنت، أو قد يتسبّب بتطوير تجربة إنترنت أكثرَ تنظيماً وأماناً.

ويمكن توقّع تبعاتٍ عديدة لهذا القرار فيما تقوم المحكمة بمقارنة مبادئ حرية التعبير بالحاجة إلى فرض رقابةٍ رقميةٍ؛ ويُرجّح أن يضع القرار المرتقب معاييرَ جديدةً للتفاعل والمساءلة عبر الإنترنت، ما يمثل منعطفاً مهماً للجدل المتواصل حول دور ومسؤولية موفري منصات التواصل الاجتماعي في تشكيل معالم الخطاب العام. لذا، فإن المجتمع الرقمي بأكمله يترقّب بفارغ الصبر فحوى هذا القرار الذي قد يعيد رسم آفاق الحرية والتحكم عبر الإنترنت.