يبدو أن شركة آبل (Apple) تراجعت رسمياً عن طموحها بإنتاج مركبةٍ كهربائيةٍ ذاتية القيادة بعد عقدٍ من الإِشاعات والتوقعات الجامحة، مخيبةً بذلك آمال الجماهير التي طال انتظارها لخبرٍ سار طوال هذه المدة، وبحسب تقريرٍ حصريٍّ لوكالة بلومبيرج: قامت الشركة بإخطار موظفيها الثلاثاء الماضي بقرار إلغاء المشروع الداخليّ المسمّى “Project Titan”، ما شكّل صدمةً لألفي موظّفٍ يعملون في المشروع عندما قام رئيس العمليات جيف ويليامز (Jeff Williams) ومشرف المشروع كيفين لينش (Kevin Lynch) بإعلان الخبر خلال أحد الاجتماعات. وتم إبلاغ بعض أولئك الموظفين بنقلهم إلى مشاريع أخرى تركّز على الذكاء الصنعي ضمن الشركة التي تتخذ من مدينة كوبرتينو مقراً لها، ولا نعلم شيئاً عن مستقبل المئات من مهندسي الأجهزة والمصمّمين الذين كانوا جزءاً من هذا المشروع.

فكرة سيارةiCar من آبل استمرّت بتشويق معجبي الشركة منذ عام 2014

أثارت شركة آبل ضجةً في الوسط التقني منذ ظهور أولى إشاعات عملها السرّي على سيارة كهربائيةٍ (iCar) بحسب البعض، تبعَ ذلك تسريب تفاصيلَ شحيحةٍ على مدار السنوات اللاحقة إلا أن التلميحات التي شاركتها الشركة عبر وسائل الإعلام غذّت التوقعات حول ما يمكن لآبل ابتكاره من خلال دمج تصاميمها المبهرة في قطاع السيارات.

تخيُّل لمقصورة ركاب سيارة آبل المستقبلية

وتُعتبر آبل من الشركات القليلة القادرة على إنتاج مركبةٍ كهربائيةٍ مغريةٍ يمكن اقتناؤها وتحقيق حلم القيادة الذاتية بالكامل، إذ إنها الشركة المنتجة لهواتف آيفون (iPhone) التي اجتاحت سوق الهواتف المحمولة قبل بضع سنوات.

ومع انضمام العديد من الأشخاص المهمّين للمشروع واستقدامهم من كبريات الشركات مثل تسلا (Tesla)؛ ارتفع سقف التوقعات لخطط آبل لإنتاج مركبةٍ أنيقةٍ عالية التقنية والرفاهية، مليئةٍ بالحسّاسات المخصّصة للقيادة الذاتية كي يتجلى فيها تركيز آبل المعروف على إثراء تجربة المستخدم. وقد بلغت الحماسة في القطاع أقصى مستوياتها عندما صدرت أخبارٌ عام 2021 عن نيّة شركة آبل إطلاق السيارة في عام 2026 بسعرٍ أقلَّ من 100,000$، وبدا وكأن مشروع “Project Titan” يسير بسلاسةٍ نحو مستقبلٍ يمكنه إعادة رسم معالم مركبات النقل الخاصة.

مغادرة موظفين وعوائق تقنية عرقلت تقدّم المشروع

بعيداً عن الضجة وفضول المجتمع؛ عانى مشروع “Project Titan” لسنواتٍ من الصعوبات الإدارية والتحديات التقنية والتبدلات في التوجّه، ليستمرَّ الجدول الزمني لإنجاز المشروع بالتأخّر بعد التغيير الأخير لهدفه من صناعة مركبةٍ ذاتية القيادة بالكامل إلى مركبةٍ كهربائيةٍ تقليديةٍ فاخرة، وقد تراجعت معنويات فريق المشروع بسبب ضبابية الرؤية، كما اضطرَّ المهندسون لتقديم تقاريرهم إلى العديد من الجهات في ظلِّ إعادة الهيكلة التي طالت العديد من أصحاب الرتب العليا في المشروع.

وشهد المشروع مغادرة العديد من الأسماء البارزة خلال السنوات الأخيرة مثل دوج فيلد (Doug Field) -رئيس قسم سيارة آبل السابق والذي يعمل حالياً لدى شركة فورد لصناعة السيارات- في دلالةٍ على غموض الناتج المتوقع من مشروع “Project Titan”؛ وقد فرضت إدارة الشركة العليا على المشروع اتخاذ قرارٍ مصيريٍّ الشهر الماضي بخصوص المتابعة أو التوقف، ليتم تأكيد الخبر الذي صدر هذا الأسبوع على السير في الخيار الثاني بعد إنفاق مليارات الدولارات على تطوير مركبةٍ كهربائيةٍ ذاتية القيادة دون نتائجَ تُذكر، وبذلك قرّرت شركة آبل طيَّ صفحة عقدٍ كاملٍ من العمل على المشروع.

آبل تنضم إلى موجة إعادة الهيكلة الوظيفية

أجبر عام 2022 العديد من الشركات العملاقة من أمثال أمازون (Amazon) وميتا (Meta) وX (تويتر سابقاً) على تسريح آلاف الموظفين، لتنضمَّ آبل الآن إلى ركب الشركات التقنية في مساعيها للإبقاء فقط على العدد الأنسب من الموظفين، وذلك في إطار سعي الشركة بشكلٍ أساسيٍّ لتوجيه مواردها الهائلة نحو المجالات التي تتيح أعلى الفرص، والتي يمكنها إعادة تشكيل القطاع التقنيّ حالياً (وأبرزها تقنيات الذكاء الصنعي التوليدي والواقع المعزّز/الافتراضي “AR/VR”)؛ ليطمئن قدامى صانعي السيارات ممّن كانوا متخوّفين يوماً ما من اقتحام شركة آبل للقطاع، واحتمالية تهديد عروشهم من خلال قلب موازين آليات تصميم وتصنيع وتشغيل مركبات النقل الخاصّة وطرق تزويدها بالطاقة.

وتبقى الشركات الحديثة نسبياً -كشركتي ريفيان (Rivian) ولوسيد (Lucid Motors)- أهمَّ تهديدٍ للشركات المهيمنة على القطاع على الرغم من مواجهتها لمشاكلَ عديدة، ولا يشعر أحدٌ بالأسى بقدر المؤمنين الأوائل بمشروع آبل من مهندسين وداعمين تمسّكوا برؤيا سيارة آبل وضحّوا بالكثير من الوقت والجهد ليستيقظوا على وقع الخبر الصادم بشكلٍ غير ملائم.

يمكن لتركيز آبل المطلق على نطاق عملها الأساسيّ أن يلقى استحسان المستثمرين

يرتبط إلغاء مشروع آبل بالعديد من النقاشات البارزة في القطاع التقني -والذي يقوم بالتخلص من أعبائه الزائدة- وأوّلها تقنية الذكاء الصنعي التي أصبحت محبوبة الجميع والمستحوذة على غالبية هوس كبريات شركات التقنية العملاقة، فقد أنفقت شركة مايكروسوفت 10 مليار دولار على نموذج OpenAI ونظيرتها جوجل 300 مليون دولار على أداة Anthropic، حيث اختارت آبل التركيز أيضاً على هذا المجال وتوجيه مواردها نحو إنجاز مهامَّ ذات أولويةٍ إستراتيجيةٍ يمكن تحقيقها بسهولةٍ أكبر.

وقد يطغى هذا التوجّه على القطاعات الناشئة مثل الحوسبة الكمية والعوالم الافتراضية (الميتافيرس) وتقنيات المركبات، كما يتوافق تطوير الذكاء الصنعي بالنسبة لشركة Apple مع طموحاتها في مجال الخدمات المالية ومؤسسات الرعاية الصحية وغيرها. وبما أن الذكاء الصنعي لا يمثّل المجال التقني المتقدّم الوحيد الذي تعمل عليه الشركة، فقد وصفَ غالبية النقاد نظارات الواقع الافتراضيApple Vision Pro بأنها الأفضل من نوعها في العديد من المجالات إلى جانب ابتكاراتها المتعلقة بـ”الحوسبة المكانية”، كما تنتشر أخبارٌ عن اقتراب شركة آبل من إصدار أجهزة آيفون وآيباد قابلةٍ للطي.

هاتف محمول قابل للطيّ

وفي هذه الأثناء، تسيطر عمليات تسريح موظفين وتجميد التوظيف وغيرها من إجراءات خفض النفقات على القطاع التقنيّ، مجبرةً شركات التقنية العملاقة على إلغاء مشاريعَ تجريبيةٍ واختبار نهجها التجاريّ الأساسي تحت الضغط، ويعتقد النقّاد أن هذا الوضع يمكنه كشف مشاكل تخصّ الأعباء التشغيلية الزائدة والإفراط في المخاطرة نتيجة بلوغ مرحلة الانكماش من دورة التمويل (الاقتراض) السهل التي شجّعتها المصارف المركزية خلال فترة الجائحة.

كما تثير هذه الحالة جدلاً حول إفراط شركات عمالقة قطاع التكنولوجيا في تنويع مجالات عملها بدلاً من التركيز على اختصاصاتها الأساسية بحثاً عن وسيلةٍ لتحفيز نموّها البطيء نسبياً بعد أن أصبحت شركاتٍ عملاقةً ناضجةً؛ فعلى سبيل المثال، ينبّه المشكّكون بشركة تسلا إلى خطورة تشتّت انتباه إيلون ماسك بين شركاته SpaceX وNeuralink وX. وقد جذبت مغامرة آبل في مجال المركبات الكهربائية انتقاداتٍ مماثلةً مع انحياز المتحمّسين لنجاح الشركة إلى التركيز على مجالٍ واحدٍ فقط بهدف الاستمرار في السيطرة على سوق الهواتف المحمولة سريع التطوّر.

الذكاء الصنعي يُعد خياراً إستراتيجياً أكثرَ منطقيّة ويمكنه رفع ربحية آبل بشكلٍ أسرع

يؤكد تصحيح المسار الذي أجرته شركة آبل ذلك الميلَ نحو الاعتماد على نقاط قوتها المعروفة بدلاً من المغامرة باستكشاف المجهول، إذ إن الشركة أتقنت صناعة الهواتف المحمولة وأنظمة التشغيل وعادت الآن للالتزام باختصاصها الأساسيّ، ويُعتبر التوجّه نحو تطوير الذكاء الصنعي خياراً منطقياً من أجل تعزيز الربحية في ظلّ أجواء الإشباع من نظم التخزين السحابيّ وتزايد الاهتمام بخصوصية البيانات وإجراءات مكافحة الاحتكار، ويستطيع مالكو أسهم آبل الاطمئنان الآن مع معرفتهم التزامَ الشركة بتحسين وتطوير منتجاتها الناجحة بدلاً من التخبط باستكشاف أجواءَ ضبابيةٍ غير معلومة.

ويبقى هذا القرار مخيّباً لآمال محبّي التكنولوجيا التوّاقين للاستمتاع بابتكاراتٍ جديدة وتغيّراتٍ في المفاهيم المعهودة من شركات صناعة السيارات التقليدية، وعلى الرغم من حكمة هذه الخطوة وحفاظها على ربحية الشركة، إلا أن هذا الاستسلام يُعتبر تضحيةً بفرصةٍ هائلةٍ أخرى لصالح شركاتٍ أخرى في مجال التكنولوجيا؛ ويتوافق هذا مع تطوّر الأنماط المستحدثة في القطاع، حيث تراجعت شركة مايكروسوفت عن سعيها لإنتاج وتسويق هاتفٍ ذكيٍّ خاص بها منذ عدة سنوات، فيما قامت نظيرتها أمازون بتقليص فريق التوصيل بالطائرات المسيّرة عندما تأكدت من مدى صعوبة تطبيق الفكرة.

أخيراً، فإننا لن نعلم أبداً الكيفية التي ربّما بدت عليها سيارة آبل لو أنها خرجت للوجود، أو إن كانت ستحقق نجاحاً خارقاً أم لا، لتبقى هذه المركبة الغامضة طيَّ صفحات التاريخ فقط مع اتجاه تيم كوك (Tim Cook) -المدير التنفيذيّ- وشركته للتركيز على قطاع الذكاء الصنعيّ الذي يمكنه توفير ربحيةٍ أعلى وبوتيرة أسرع.