تلقي تقنية الذكاء الصنعيّ (AI) بظلالها على قطاع التوظيف في عالمنا الحاليّ سريع التطور، حيث تعمل هذه التقنية على إعادة تشكيل معالم التوظيف العالميّ بأكملِهِ نظراً لتأثيرها الممتد إلى كافة القطاعات (من عمالقة وادي السيليكون إلى شبكات الإمداد والتوزيع الأساسيّة) من خلال آلافِ عمليات التسريح الوظيفية التي يتم الإعلان عنها بشكلٍ ربع سنويّ، إذ أصبحت الشركات الكبيرة والصغيرة تميل إلى استكشاف أوجه الاستفادة من تقنيات الذكاء الصنعيّ لاكتساب الأفضلية التنافسية وتحسين كفاءتها التشغيلية، لنجدَ أنفسنا حالياً في مفترق طرقٍ يمكنه تغيير ما ألفناه حول كيفية أداء الوظائف.
ولكن ما معنى هذا الكلام بالنسبة للعاملين اليوم؟ هل سنشهد اختفاء بعض الوظائف بشكلها التقليديّ أم سنتجه إلى حقبةٍ مليئةٍ بالفرص الجديدة وآفاق الترقي العالية؟ سنتعمّق عبرَ هذه المقالة في عمليات فصل الموظفين داخل القطاع التقني مؤخراً لنستكشف دور الذكاء الصنعي في العديد من المجالات، كما سنسلّط الضوء على الفرص التي يمكن أن يخلقها هذا الحراك الجديد. لذا، دعونا الآن نغوص في تفاصيل هذا التطوّر وانعكاساته على القوى العاملة المترقّبة لمآلات حقبة الذكاء الصنعيّ الجديدة.
المشهد الحالي للتسريح الوظيفيّ في القطاع التقني
يشهد قطاع التكنولوجيا تغيراً مهماً يتمثل بسلسلةٍ من عمليات التسريح الجماعيّة للموظفين، والتي طالت كبريات شركاته. فقد أعلنت العديد من شركات قطاع التقنية أمثال: جوجل، أمازون، سناب، زوم، DocuSign وOkta عن تخفيضٍ كبيرٍ في حجم قواها العاملة، حيث تم الإعلان عن تسريح أكثرَ من 50,000 موظفٍ من كبريات شركات قطاع التكنولوجيا هذا العام.
ويشير هذه الاتجاه العام إلى نقلةٍ إستراتيجيةٍ باتجاه اعتماد تقنيات الذكاء الصنعيّ لتحسين كفاءة تخصيص الموارد والإنفاق في القطاع التقنيّ شديد التنافسية.
على سبيل المثال، قامت شركة DocuSign بالإعلان عن تخفيضٍ بنسبة 6% من حجم قواها العاملة (بواقع 400 وظيفةٍ) في إطار جهودها لخفض التكاليف وتحسين أداء سهمها. وبالمثل، قامت شركة سناب -الشركة الأمّ لمنصة سنابتشات -(Snapchat) بتسريح 10% من موظفيها بهدف إعادة توزيع مواردها وتحفيز نموّها استجابةً للتحديات الربحية التي تواجهها. كما انضمت شركتا أوكتا (Okta) وزوم (Zoom) إلى موجة تسريح العمالة هذه، حيث قامت الأولى بتسريح 400 موظفٍ تقريباً والأخرى بتسريح المئات منهم سعياً لتيسير عملياتها والاستثمار في مجالاتٍ أعلى ربحيةً، وبالأخص في مجال الذكاء الصنعيّ.
وحتى الشركات العملاقة -من أمثال أمازون وجوجل– لم تكن استثناءً من هذه الموجة، حيث قامت Alphabet (الشركة المالكة لجوجل) بتسريح 12,000 موظفٍ، فيما تُجري نظيرتها أمازون تسريحاتٍ لموظفين في العديد من الأقسام -بما فيها فصل أنشطة توزيع المنتجات الصيدلانية عن أعمالها- في إطار سعيها للتفرغ للذكاء الصنعيّ وغيره من أولوياتها الحالية. وتعكس هذه الموجة تبدلاً واضحاً في أولويات القطاع باتجاه المزيد من الكفاءة والربحية والاستثمار في مجال الذكاء الصنعي (بعد عدة سنواتٍ من التوسّع والتوظيف)، إذ تنظر هذه الشركات إلى هذه التقنيات الجديدة باعتبارها وسيلةً لتحفيز النموّ والابتكار إلى جانب قدرتها على خفض التكاليف.
وتشير هذه النقلة الصعبة إلى بزوغ عصر جديد يشهده القطاع التقنيّ، ويلعب خلاله الذكاء الصنعيّ دوراً رئيسياً في رسم إستراتيجيات شركاته وتوجّه القطاع بأكمله.
ما وراء التقنية: تأثير الذكاء الصنعيّ على سوق العمل
يتجاوز تأثير الذكاء الصنعيّ القطاع التقنيّ ليمتد إلى سوق العمل بأكمله وطريقة عمل الشركات في قطاعاتٍ متعدّدة، ومن الأمثلة الواضحة على التطبيقات الأوسع للذكاء الصنعيّ نجد شركة UPS المختصّة بالتوصيل وسلاسل التوريد التي استخدمته في أتمتة أعمالها وتطوير إستراتيجيات التسعير المتقدمة لتحقّق تحسناً ملحوظاً؛ حيث نجحت شركة UPS عن طريق الذكاء الصنعيّ بتحسين كفاءة التوصيل وخفض استهلاك الوقود ومتوسط أوقات التوصيل، إذ سمحت خوارزميّات الذكاء الصنعي للشركة بتحديد الأسعار بمرونةٍ بناءً على عدة عوامل كحجم الطرد وأولوية توصيله، ما أدى إلى رفع ربحيتها وتمتعها برضى المزيد من الزبائن.
وتظهر طبيعة التطوّرات التقنية المُصاحبة لإدخالِ تقنية الذكاء الصنعي جليةً في محتلف القطاعات (كقطاع اللوجستيات) عبرَ توفير أفضل استفادة تشغيليةٍ وإتاحة المزيد من فرص العمل، بحيث أصبحت تحثّ على إعادة التفكير بتركيبة القوى العاملة.
وكانت شركة UPS قد قامت بتسريح 12,000 موظفٍ مكتبيٍّ وإنتاجيّ، ما يشير إلى التوجّه نحو الوظائف التي تدير أنظمة الذكاء الصنعيّ وتشرف عليها بدلاً من إدارتها يدوياً بشكلٍ تقليديّ؛ وقد تسبّبت الجائحة بتسريع تبنّي الذكاء الصنعيّ لدى العديد من القطاعات، ما يمكنه مساعدة الشركات في نقلتها النوعية نحو رقمنة أنشطتها نظراً لتبدّل عادات العملاء والحاجة إلى سلاسل توريد وإمداد تتسم بالكفاءة، ليؤثرَ هذا التغيير بشدة في مجال التوظيف والاستقرار الوظيفيّ.
الجانب المشرق: فرصٌ جديدة تصنعها تقنية الذكاء الصنعي
يتيح غزو الذكاء الصنعيّ لمختلف القطاعات المجالَ أمام مزيد من النموّ والتطوّر رغم خسارات الوظائف، حيث يبرز احتياجٌ متزايدٌ للخبرات التقنية في مجالات المنتجات الاستهلاكية والتصنيع، ويشير هذا النموّ إلى الأثر الكبير للتحوّل الرقمي على تطوير المنتجات وإدارة سلاسل التوريد والإمداد وإستراتيجيات التفاعل مع الزبائن، لتتجه شركات القطاع إلى البحث عن خبراء تحليل البيانات وبرمجة الذكاء الصنعيّ وإدارة البنية التحتية الرقمية لإثراء أوجه التطوير واستباق المنافسين.
ويؤكد الرَوَاج الكبير لتقنيات الذكاء الصنعيّ على أهمية الموارد البشرية (HR) في مجال التوظيف التقنيّ، مع ازدياد السعي لإيجاد خبراء الموارد البشرية المختصّين بتوظيف أعلى المواهب التقنية كفاءةً نظراً لتزايد الحاجة إلى المهارات في المجال الرقميّ، حيث يلعب هؤلاء الخبراء دوراً مهماً في إيجاد المتقدمين الأنسب والأعلى قدرةً على التعامل مع تعقيدات الذكاء الصنعيّ والاستفادة منه لتحقيق أهداف الشركات، وتُعتبر القدرة على إيجاد هذه المواهب والاحتفاظ بها أولويةً قصوى للشركات عبرَ مختلف القطاعات، ما يمكنه رفع قيمة المختصّين بالموارد البشرية.
كما أفسَح نموّ القطاعات المعتمدة على الذكاء الصنعي المجال لطرح فرص عملٍ جديدة، حيث يُغيّر الذكاء الصنعيّ الطريقة التي يتم فيها رعاية المرضى وتشخيصهم في القطاع الصحيّ، ويتم استخدامه في القطاع المالي لكشف التزوير وتوفير الخدمات المصرفية المُخصّصة، حيث تقوم هذه القطاعات بتشجيع التعاون في مجال الابتكار عبر توظيف أفضلِ خبراء الذكاء الصنعيّ والمتخصّصين القادرين على دمج المعارف التقنية مع الخبرات الخاصّة بالقطاع.
ويُشير تغير الاتجاه العام -بفضل تأثير الذكاء الصنعيّ على مختلف القطاعات- إلى قدرة هذه التقنية على توليد فرص عملٍ جديدة وتحسين التخصّصات الوظيفية إلى جانب استبدال بعضها بأخرى، ويدلّ هذا على مستقبلٍ تلزمه المرونة والرغبة بالتعلم والقدرة على الجمع بين المهارات التقنية والمعارف الخاصّة في قطاع معيّن لبلوغ الازدهار المهنيّ.
تقنية الذكاء الاصطناعي تفرض هيمنتها على الوضع بغضّ النظر عن مشاعركم تجاهها، لذا عليكم تسخيرها لصالحكم
يتغيّر مشهد سوق العمل مع اعتراك تقنية الذكاء الاصطناعيّ مختلفَ القطاعات مؤديةً إلى تسريح أعداد هائلةٍ من الموظفين في قطاع التكنولوجيا بالأخص، إلا أنها أيضاً تفتح الأبواب أمام فرصٍ جديدة للتطوير والابتكار في مجالاتٍ متنوّعة.
وبينما تتجه الشركات نحو الذكاء الصنعيّ لتعزيز كفاءتها وربحيتها وقدرتها على التميّز بين منافسيها، فإن ذلك يرفع حاجتها لأصحاب أعلى المهارات التقنية التي تتخطى قطاع التكنولوجيا وتمتد لتشمل مجالاتٍ كالسلع الاستهلاكية والتصنيع والرعاية الصحية والتمويل؛ ولن يؤدي هذا التحوّل إلى زيادة الطلب على خبراء الذكاء الاصطناعيّ فحسب، بل يمتدّ ليشمل الموظفين الحاليين ممّن يحظون بالمعارف التقنية إضافةً إلى الخبرة بالمجال المعنيّ.
وعلى الرغم من العقبات التي تفرضها آليات الأتمتة، فإن الاتجاه نحو الاقتصاد القائم على الذكاء الصنعيّ يعمل على إيجاد سوق عملٍ يُقدّر المرونة ومواصلة التعلم وامتلاك مهارات استخدام التكنولوجيا كأداة إستراتيجيةٍ رئيسية. وعليه، فإن أثر الذكاء الصنعي له جانبان: المصاعب من ناحية والفرص الواعدة من ناحيةٍ أخرىى، في دلالةٍ على اتجاهنا إلى مستقبلٍ يجمع بين الابتكارات التقنية والإبداع البشريّ لإعادة تشكيل طريقة إتمام المهام الوظيفيّة على أكملِ وجه.