رغم انتشار عملة البيتكوين الرقمية المشفرة في العديد من الأسواق المالية العالمية، فضلًا عن استبدال العملات الوطنية بها، وقبولها من بعض الجهات الحكومية، فإن العديد من الدراسات تشير إلى مخاطر تكتنف التعامل بالعملات الرقمية المعماة (المشفرة) بصفة عامة، ومن أبرزها التقلبات السعرية. عامل المخاطرة هذا دفع الكثير من علماء الشريعة المسلمين إلى التعامل بحذر في الفتاوى المتعلقة بمشروعية تداول البيتكوين، وغيرها من العملات المشفرة. 

 

الحكم الشرعي في البيتكوين

من خلال الأبحاث والفتاوى المعروضة عن الموضوع، والمناقشات التي تدور حوله، يتبيّن أن ثمة عوامل مؤثرة في الحكم الشرعي لتداول البيتكوين، لا تزال محل نظر، منها:

 – ماهية العملة المعماة (المشفرة)، هل هي سلعة أم منفعة أم هي أصل مالي استثماري أم أصل رقمي؟

 – هل العملة المشفرة متقوّمة ومتموّلة شرعًا؟

 

تُعد مسألة عملة البيتكوين مسألة حديثة نسبيا،  تضاربت الآراء وافترقت في بيان حكمها الشرعي. فمن قائل بجوازها قياساً على العملات الورقية ولتعارف الناس على استخدامها والعمل بها، ومن قائل بتحريمها لاختلافها عن النقود الورقية والذهب والفضة، بدليل عدم اعتراف دول العالم بها بشكل رسمي وإن سمحت بتداولها. وهناك من توقف عن الحديث بحكمها الشرعي مع أنه أوجب الزكاة فيها إذا ملك منها النصاب وحال عليه الحول. 

ولِحداثة هذه المسألة، فإنّ بيان الحكم الشرعي فيها  يحتاج – وفقاً للمختصين-  إلى محددات معينة وتوفير إجابات على بعض الأسئلة منها: تحديد معنى العملة ومدى أهمية دور الدولة في إصدارها. ومدى الجهالة والمخاطرة التي تحيط بهذه العملة خاصة أنها تقوم على عملية برمجة وحل خوارزميات وأرقام سرية على جهاز الحاسوب، وهذا معرض للهجمات الفيروسية واختراقها وإنهاء كل الحسابات وضياعها.  لذلك فإنّ غالبية المفتين يميلون إلى التروي في إعطاء الحكم الشرعي في هذه المسألة،  إلى حين استقرار التعامل بها بين حكومات الدول، خاصة أن هناك من مشايخ العصر من قلب رأيه في المسألة لعدم وضوح أبعاد هذه العملة أمامه. ومن الضروري في هذا الباب مشاركة خبراء البرمجة الالكترونية والتقنيات الحديثة وأهل الاقتصاد في توضيح المسألة قبل البت في الحكم الشرعي، ليكون الحكم فيها عن بيّنة .

 

 

في حين دعا الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين -علي القره داغي-  الدول الإسلامية إلى تبنّي هذه العملات وتصدّرها لتكون ضامنة لها، فإنه أكد في الوقت ذاته على  أن الاستثمار في العملات المشفرة أو الرقمية مثل بيتكوين ومثيلاتها محرم حتى الآن، ويسمى تحريمه بتحريم الوسائل وهو أخف أنواع التحريم .

وبين القرة داغي سبب التحريم بعد دراسة مفصلة بأنه تحريم لأجل الحفاظ على المال وليس تحريما لأجل الربا .

وفي حديثه عن أسباب التحريم للتعامل بالبتكوين وأخواتها، بيّن علي القره داغي أنها ليست عملة معدنية لأنها لاتحمل في ذاتها أية فائدة وإنما فائدتها في قضايا التبادل، وليست ائتمانية فليس ورائها دولة تضمنها، وليست سلعة بالاتفاق، وكذلك وليست مجرد حق مالي بل هو برنامج متطور .

النقاش حول “تحليل أو تحريم” العملات الرقمية من وجهة نظر الشرع الإسلامي، ليس نقاشاً جديداً، كما أشرنا أعلاه، إذ كان محطّ اختلاف للآراء بين المرجعيات.

ففي عام 2017، أعلنت أمانة الفتوى بدار الإفتاء المصري أن التداول بتلك العملات “والتعامل من خلالها بالبيع والشراء والإجارة وغيرها حرام شرعاً”.

وفي فتوى صدرت عام 2021، قالت الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف في الإمارات إنه “تجوز المتاجرة بالعملات الرقمية الافتراضية”.

وفي الوقت ذاته، قال عضو هيئة كبار العلماء في السعودية الشيخ عبد المنيع في مقابلة تلفزيونية إن العملات الرقمية “محرمة”، وشبهها بالـ”مقامرة”، معتبراً أنها “من أكل أموال الناس بالباطل”.

جدير بالذكر أن مصرف قطر المركزي قد أصدر هذا العام 2022 عددًا من التعاميم إلى المؤسسات المالية العاملة في الدولة يحذر فيه من خطورة التعامل بعملة “البتكوين” الافتراضية، ويطلب من جميع المؤسسات المالية عدم فتح أية حسابات للتعامل بهذه العملة، وكذلك عدم إجراء أو استقبال أية تحويلات لأموال خاصة بتداول هذه العملة.

وجاء تحذير المصرف انطلاقا من حرصه على سلامة الجهاز المالي والمصرفي في الدولة وحمايته من المخاطر المحيطة بتداول عملة البتكوين، ‏المتمثلة في عدم وجود أي التزام من أي بنك مركزي أو حكومة حول العالم بضمان قيمة هذه العملة، بالإضافة إلى عدم وجود مقابل لها سواء من الذهب أو المعادن الأخرى أو من السلع، بالإضافة إلى تذبذب قيمتها بشكل كبير وإمكانية استخدامها في الجرائم المالية والقرصنة الإلكترونية، إلى جانب إمكانية خسارة قيمتها لعدم وجود جهة ضامنة لها.

وحث المصرف المستثمرين على اتخاذ الحيطة والحذر اللازمين في التعامل بالعملات الافتراضية.

 

الأصول المشفرة هي منتج استثماري شديد التقلب وغير منظم

 

بحث أكاديمي شرعي حول الموضوع

 

وفي بحث نشرته مجلة جامعة الأزهر في غزة، يلخص الباحثان محمد علوش وهاني عوض الأسباب التي دعت عدداً من الجهات الفقهية لتحريم العملات، وأبرزها أنها تتضمن مخاطرة، وقد تفضي لضياع المال، وأنها مجهولة المصدر، وغير مغطاة بأي نوع من المال الحقيقي، ولا تصدر عن أي مصرف مركزي، إلى جانب تذبذب أسعارها.

ومن الأسباب أيضاً التي وردت في الاعتراضات الشرعية على العملات الرقمية أنها ليست شائعة بين الناس، بل هي “عملة وهمية”، وأن فيها تعد على صلاحيات الدول من حيث إصدار العملات.

على الجانب الآخر، يعرض الباحثان آراء عدد من الفقهاء حول أن ما من سبب لمنع العملات الرقمية من وجهة نظر شرعية، وذلك لأن العملات الافتراضية باتت مالاً مشروعاً بحكم الأمر الواقع، ويتم تداولها في الشراء والخدمات.

ويرى فقهاء منهم قطب سانو أن مفهوم النقود في الفقه ينطبق على العملات الرقمية المشفرة باعتبارها وسيطاً للتبادل تعارف عليه الناص في العصر الحاضر، وبالتالي يجوز التعامل بها، وتخضع لسائر الضوابط التي تخضع لها النقود شرعاً.

يعتبر سانو أن العملات المشفرة شرعية رغم الأنشطة التي قد تمارس عبرها من قمار أو تزوير أو تلاعب.

 

الأصول المشفرة هي منتج استثماري شديد التقلب وغير منظم

 

أبعد من الفتاوى والأبحاث الشرعية، باتت هناك خدمات تختص بتقييم “المحاذير الشرعية” للتداول بأي عملة رقمية مشفرة ناشئة، من بينها مشروع “كريبتو حلال” الذي أسسه أستاذ الفقه المقارن الفلسطيني محمد يوسف أبو جزر.

عبر قناة المشروع على تلغرام، يصدر “كريبتو حلال” بيانات يومية حول “مشروعية” العملات المشفرة الجديدة، ومشاريع العقود الذكية للعملات الناشئة قبل البدء بتداولها.

 

 

 

تشير بعض التقديرات إلى أن حجم ما يعرف بـ”الاقتصاد الحلال” سيبلغ نحو 3.2 تريليون دولار في عام 2024، ويشمل، إلى جانب المأكولات والسياحة الدينية والملابس المحتشمة ومستحضرات التجميل، عالماً واسعاً من مشاريع العملات المشفرة وغيرها من المشاريع التي تساهم ببناء ما يعرف بالـ”ويب 3″.

وقد بدأت مؤسسات دينية حول العالم بقبول الدفع والتداول بالعملات المشفرة، منها على سبيل المثال مسجد “شاكل لايت” في لندن، الذي بدأ بقبول التبرعات منذ عام 2018 بواسطة عملتي بيتكوين وإيثيريوم.

كذلك بدأ عدد من المصارف الإسلامية في الإمارات، منذ سنوات، بقبول التداول بعقود الـ”بلوك تشين” الذكية.

ورغم اختلاف الآراء، هناك اتفاق بين الفقهاء على أن البحث بجواز استخدام العملات المشفرة قد يختلف باختلاف السياقات، ومع اختلاف أغراضها وطرق تداولها، وربما مع اعتراف عدد من الدول بها.

 

 

  ثمنية العملات المشفرة

 انتهت الفتاوى المجمعية، بل والفردية، إلا ما شذ من آراء فردية إلى أن الذهب والفضة والعملات الورقية يدخلها الربا بنوعية (الديون والبيوع)؛ أما الذهب والفضة فللنص عليهما، وأما العملات الورقية فلوجود الثمنية فيها باعتبار الثمنية هي العلة في الذهب والفضة. وهنا تبرز مسألة قياس العملات المشفرة على الذهب والفضة من جديد، هل تلحق بهما لوجود الثمنية بها؛ أم لا تلحق لعدم رواجها في جملة الثمنيات؟ ويترتب على ذلك سريان ربا البيوع عليها، فإذا ألحقت بالذهب والفضة لحقها ربا البيوع، وإذا لم تلحق بالذهب والفضة لم يلحقها ربا البيوع، لكن ربا الديون سيلحقها على كل الأحوال. ويترتب على إلحاق العملات المشفرة بالذهب والفضة الآتي : 

(أ) لا يجوز بيع النقد المشفر بعضه ببعض، أو بغيره من الأجناس النقدية الأخرى، من ذهب أو فضة أو غيرهما، نسيئة مطلقًا. فلا يجوز مثلاً بيع وحدة من البيتكوين بعملة أخرى نسيئة بدون تقابض. 

(ب) لا يجوز بيع الجنس الواحد من النقد المشفر بعضه ببعض متفاضلاً، سواء كان ذلك نسيئة أو يدًا بيد، فلا يجوز مثلاً بيع عشرة وحدات من البيتكوين، بإحدى عشرة وحدة نسيئة أو يدًا بيد. 

(ج) يجوز بيع بعضه ببعض من غير جنسه مطلقًا، إذا كان ذلك يدًا بيد، فيجوز بيع وحدة من البيتكوين أو لايتكوين..بريال قطري واحد، أو أقل من ذلك، أو أكثر إذا كان ذلك يدًا بيد.

 (د) وجوب زكاة العملات المشفرة، إذا بلغت قيمتها نصاب الذهب، وهو 85 جراما من الذهب ، أو كانت تكمل النصاب مع غيرها من الأثمان والعروض المعدة للتجارة. 

(هـ) جواز جعل النقد المشفر رأس مال في بيع السلم، والشركات. 

(و) أما جعل النقد المشفر مسلما فيه، فهذا ربما يكون محل إشكال؛ لأنه قد لا يكون عام الوجود حين التسليم.

 

القبض الحكمي 

 

لا يتصور أن يكون للعملات المشفرة قبض حقيقي؛ لأنها ليست عملات حقيقية، فهي افتراضية كما ذكرنا من قبل؛ إذن سوف يكون القبض في التعامل بها قبضا حكميا، وهو يحصل بتسجيلها في البلوكيشن وانتقالها إلى محفظة المالك الجديد؛ جاء في قرارات مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي : ” من صور القبض الحكمي المعتبرة شرعاً وعرفاً : القيد المصرفي لمبلغ من المال في حساب العميل في الحالات التالية :

 أ – إذا أودع في حساب العميل مبلغ من المال مباشرة أو بحوالة مصرفية . 

ب – إذا عقد العميل عقد صرف ناجز بينه وبين المصرف في حال شراء عملة بعملة أخرى لحساب العميل. 

ج – إذا اقتطع المصرف – بأمر العميل – مبلغاً من حساب له إلى حساب آخر بعملة أخرى ، في المصرف نفسه أو غيره ، لصالح العميل أو لمستفيد آخر ، وعلى المصارف مراعاة قواعد عقد الصرف في الشريعة الإسلامية . 

ويغتفر تأخير القيد المصرفي بالصورة التي يتمكن المستفيد بها من التسلم الفعلي ، للمدد المتعارف عليها في أسواق التعامل ، على أنه لا يجوز للمستفيد أن يتصرف في العملة خلال المدة المغتفرة إلا بعد أن يحصل أثر القيد المصرفي بإمكان التسلم الفعلي .” والشاهد أن القبض الحكمي يحل محل القبض الحقيقي في هذه العملات.

 

 

المضاربة على العملات المشفرة

 

تُعد المضاربة على العملات من أكثر الممارسات شيوعًا في هذه الأيام داخل البورصة، والمقصود بها شراء عملة يتوقع أن يرتفع سعرها لبيعها وقت ارتفاع سعرها، أو بيع عملة يتوقع هبوط في سعرها أو مزيد في هبوط سعرها تفاديًا للخسارة أو تقليلا لها. وقد ناقش مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي هذه القضية في دورته الحادية عشرة سنة (1998)م، وقدم للمجمع وقتها بحثان – هما مجموعة ما قدم من أبحاث في الموضوع- وقد نحا البحثان إلى منع جعل العملات محلا للمتاجرة ، إلا أن المجمع لم يتخذ في حكم المتاجرة بالعملة في هذه الدورة قرارًا.

 

ومن خلال تتبع مناقشة هذا الموضوع داخل المجمع يتبين لنا أن العلماء انقسموا إلى فريقين:

 الفريق الأول: يرى أنه لا بأس بجعل العملات محلا للبيع والشراء بقصد المتاجرة (مضاربة بالمعنى الشائع وإن كان خطأ من الناحية الشرعية) طالما أن المتاجرين بها ملتزمون بالضوابط الشرعية لقواعد الصرف وممن رأى ذلك (الدكتور علي محيي الدين القره داغي، والدكتور مختار السلامي، والدكتور عبد الله بن بيه، والدكتور صالح المرزوقي). 

الفريق الثاني: يرى أنه لا يجوز جعل العملات محلا للبيع والشراء بقصد المتاجرة لا في السوق العاجلة ولا الآجلة، وهذا ما عليه أكثر العلماء، وممن قال بذلك: (الدكتور عبيد العقروبي، والشيخ عكرمة صبري، والشيخ الصديق الضرير، والدكتور محمد علي القري، والدكتور علي السالوس، وصاحبا البحثين المقدمين للمجمع الدكتور أحمد محيي الدين أحمد، والدكتور شوقي أحمد، والدكتور سامي السويلم، والدكتور محمد بن سعود العصيمي. وهذا الخلاف سيسري على النقد المشفر في حالة المضاربة عليه.

 

 

تحيّل يقود إلى مَنفذ شرعي 

 

 مما تجدر الإشارة إليه أن عدم عدِّ النقد المشفر من جملة العملات سيفتح باب التحيّل على ربا البيوع على مصراعيه ليحل محل ربا القروض والديون؛ حيث يتمكن المضاربون من بيع البيتكوين بالدولار مثلا بدون التقيد بأحكام الصرف من التسليم والتسلم الفوريين، ومن عدم التماثل بين بيع البيتكوين بالبيتكوين، ثم يقوم المتعاملون بتحويل البيتكوين إلى الدولار بعدما يكونان قد حصلا على بغيتهما! فمن أراد أن يقترض مثلا ألفا ويردها ألفا ومائتين، فبدلا من ذلك سوف يشتري ألف وحدة بيتكوين عاجلة بألف ومائتي وحدة من البيتكوين مؤجلة، ثم بعد أن يستلم الألف بيتكوين يقوم بتغييرها إلى الدولار ليحصل على بغيته، ولا نملك أن نحرم عليهما هذه الحيلة حينئذ!

يُرجى الأخذ في الاعتبار أنّ هذا المنفذ يقوم على فرض أن وحدة البيتكوين تساوي في سوق الصرف دولارا واحدا، وإلا وقع العقد على ما يساوي الألف دولار من وحدات البيتكوين.

 

الأصول المشفرة هي منتج استثماري شديد التقلب وغير منظم

 

أسئلة شائعة

هل يوجد رأي فقهي قاطع بتحريم عملة البيتكوين المشفرة؟

هل توجد مواقع إسلامية تقدم خدمات فتاوى شرعية في موضوع البيتكوين والعملات الرقمية الأخرى؟