مؤسس منصة بينانس تشينجبينج تشاو بشعر قصير ونظارات وأمامه ميكروفون

في قضيةٍ تاريخيةٍ قد تُحدث تغييراً جذرياً في قطاع الكريبتو، حُكم على تشينجبينج تشاو (Changpeng Zhao) -الملياردير المؤسس لأكبر منصة تداولٍ في العالم بينانس (Binance)- بالحبس لمدة أربعة أشهرٍ في السجن الفيدرالي لفشله بتطبيق برنامجٍ فعّالٍ لمكافحة غسيل الأموال في شركته.

ويأتي الحكم الذي أصدره قاضي المقاطعة الأمريكية ريتشارد جونز (Richard Jones) في مدينة سياتل يوم الثلاثاء بعد أشهرٍ فقط من التوصّل إلى تسويةٍ بقيمة 4.32 مليار دولار بين تشاو وبينانس والسلطات الأمريكية في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، والتي أسدلت الستار على تحقيقٍ استمرَّ لعدة سنوات فيما يخصّ دور بينانس بتسهيل كلٍّ من غسيل الأموال والتهرّب من العقوبات على نطاقٍ واسع.

نجاح وسقوط تشاو: عملاق الكريبتو صاحب البصمة الكبيرة في القطاع

binance fined and forced to be separated from its ceo

ورقة مكتوب عليها كلمة بينانس وشعارها باللون الأصفر

قام تشينجبينج تشاو (Changpeng Zhao) -المعروف اختصاراً باسم “CZ” في عالم الكريبتو- بتأسيس منصة Binance عام 2017، وسرعان ما طوّر المنصة لتصبح من عمالقة الكريبتو، حيث تقوم بمعالجة معاملاتٍ بمليارات الدولارات من الأصول الرقمية يومياً؛ حيث يتجاوز حجم تداولاتها اليومية 70 مليار دولار، ما قد يُظهر حتى أقوى منافسيها كهواةٍ بالمقارنة معها.

مع ذلك، اتّهم المدّعون منصةَ بينانس بالعمل “كآلةٍ لغسيل الأموال” من خلال تعمّدها عدم تنفيذ إجراءاتٍ احترازيةٍ كافيةٍ ضد الأنشطة المالية غير المشروعة. فوفقاَ لوثائق المحكمة، قامت منصة Binance بمعالجة أكثر من 100,000 معاملةٍ ماليةٍ يُشتَبه ارتباطها بالإرهابيين وعصابات المخدرات وجماعات الاتّجار بالبشر.

كما سهّلت المنصّة أيضاً غسل عوائد مُحصّلةٍ من فِدياتٍ، وساعدت على التهرّب من العقوبات من خلال معالجة معاملاتٍ ذات صلة بكياناتٍ خاضعةٍ للعقوبات، مثل إيران وكوريا الشمالية وروسيا.

وقال القاضي جونز لـ “تشاو” أثناء جلسة النطق بالحكم، وفقاً لتقرير من رويترز: “كان لديكم الإمكانيات والقدرات المالية والكفاءات للتأكد من الالتزام بكلّ القوانين، ولكنكم لم تقوموا بذلك”.

وبالإضافة إلى مبلغ 4.32 مليار دولار الذي ستضطرّ شركته لدفعه كعقوبةٍ على أفعالها، فقد تم أيضاً تغريم تشاو بمبلغ 50 مليون دولار لتورطه الإجراميّ، وسيُجبَر كذلك على دفع 50 مليون دولار أخرى إلى لجنة تداول السلع الآجلة الأمريكية (CFTC).

تجاهلٌ مُتعمَّدٌ في الامتثال للقوانين التنظيميّة

يؤكد ممثلو الادعاء بأن “التجاهل المُتعمَّد” من جانب تشاو للامتثال لقوانين مكافحة غسيل الأموال مكّن منصّة بينانس (Binance) من التفوّق على منافسيها، ما سمح لمنصة تداول الكريبتو هذه بإعطاء الأولوية للأرباح على حساب الالتزام بالقوانين الأمريكية.

وقال ممثلو الادعاء في مذكرة الحكم: “لقد راهن تشاو على أنه لن يتم القبض عليه، وأنه حتى لو حصل ذلك، فإن العواقب لن تكون خطيرةً بما يتناسب مع جرمه. ولكن تم القبض على تشاو، والآن ستقرر المحكمة الثمن الذي ينبغي عليه دفعه مقابل جرائمِه”.

وتبعاً لوثائق المحكمة، فقد كان موظفو بينانس (Binance) على درايةٍ تامة بتدابير الامتثال المتساهلة في المنصة وسمحوا بتنفيذ الأنشطة غير المشروعة، حتى أن أحد موظفي الامتثال في بينانس كتب ذات مرة: “نحن بحاجة إلى لافتةٍ تقول: هل تعتقدون أن غسيل أموال المخدرات صعبٌ جداَ هذه الأيام؟ تعالوا إلى بينانس، فنحن نقدم لكم ما تريدون”.

كما اتّهم ممثلو الادعاء تشاو بتعمُّد التعتيم على الإجراءات التي اتخذتها بينانس للتهرّب من القوانين الأمريكية، بما في ذلك تعليماتٌ للموظفين تنصّ على إخفاء مواقع العملاء في الولايات المتحدة.

مع ذلك، أكد المُدَّعون أنهم لا يُقارنون تشاو مع شخصياتٍ أخرى سيئة السمعة في عالم العملات الرقمية، مثل سام بانكمان فرايد (Sam Bankman-Fried) الذي احتال على المستثمرين بمليارات الدولارات من خلال عمليات منصة الكريبتو المنهارة FTX. وقال المُدّعي كيفن موسلي (Kevin Mosley): “لا نقول إن السيد تشاو هو سام بانكمان فرايد أو أنه بهذا السوء”، إلا أنه أشار إلى أن قرار تشاو بالتغاضي عمداً عن مسألة السماح للعملاء بإجراء هذه المعاملات غير المشروعة “لم يكن عن طريق الخطأ”، مشدّداً أنه “لم يكن مجرّد هفوة قانونية”.

من جانبه، طلب تشاو العفو من المحكمة والجمهور خلال جلسة النطق بالحكم، وقال: “أنا آسف” أمام المحكمة وعند سماع النطق بالحكم عليه، وأضاف: “أعتقد أن الخطوة الأولى لتحمّل المسؤولية هي الاعتراف الكامل بالأخطاء.. وأعترف أنني فشلت هنا في تنفيذ برنامج مناسب لمكافحة غسيل الأموال … وأدرك الآن مدى فداحة ذلك الخطأ”.

وكتب تشاو أيضاً في رسالةٍ موجهة إلى المحكمة: “لا يمكن للكلمات أن تعبّر عن مدى ندمي العميق على اختياراتي التي أدّت إلى مثولي أمام المحكمة… وأؤكد لكم أن ذلك لن يحدث مرّةً أخرى أبداً”.

إدانة تشاو سابقة نصرٍ للمشرعين الماليين

مع أن الحكم بالسجن لمدة أربعة أشهر ليس سوى صفعةٍ خفيفةٍ على يد تشاو مقارنةً بالعقوبة القصوى المحتملة، فإنه يمثل انتصاراً معنوياً للمنظمين الأمريكيين في جهودهم المستمرة لتنظيم قطاع الكريبتو شديد الفوضوية.

وقالت المحامية الأمريكية تيسا جورمان، التي أشرفت على التحقيق في بينانس: “كان الحكم بالسجن أمراً بالغ الأهمية في هذه القضية، ونحن سعداء بالنتيجة، لقد كان يوماً ملحمياً”.

ويأتي الحكم أيضاً بمثابة تحذيرٍ للمسؤولين الآخرين في مجال الكريبتو الذين قد يرغبون بالتهرّب من القوانين المالية في سعيهم لتحقيق نموّ وأرباح سريعة. وكجزءٍ من اتفاق الالتماس، وافق تشاو على التعاون مع التحقيقات الجارية والابتعاد عن عمليات بينانس لمدة ثلاث سنواتٍ على الأقل.

مع ذلك، هنالك وجهة نظرٍ أخرى ترى أن قرار المحكمة بالإدانة على الجرائم التي ارتكبها تشاو غير كافٍ. وقال دينيس كيليهر -رئيس مجموعة Better Markets المناصرة للإصلاح المالي- إن الرسالة المُرسلة اليوم هي أن “الجريمة تدرّ الأرباح”، في إشارةٍ منه إلى قدرة تشاو على الاحتفاظ بالكثير من ثروته الهائلة على الرغم من إدانته.

إدانة تشاو قد يتبعها تحقيقاتٌ جديدة حول مدراء تنفيذيين آخرين في قطاع الكريبتو

تمتد تداعيات الدعوى القضائية ضد بينانس وتشاو إلى كامل قطاع العملات الرقمية الذي طالما عمل في منطقةٍ مبهمةٍ من الناحية القانونية، ويمكن أن تتجرّأ الجهات القانونية -بعد هذه الإدانة- على اتخاذ اجراءاتٍ أكثر صرامةً ضد منصّات تداول الكريبتو الأخرى والشركات التي تفشل في تطبيق الإجراءات الملائمة لمكافحة غسيل الأموال.

ونذكر بالأخصّ لجنة الأوراق المالية والبورصات (SEC) ولجنة تداول العقود الآجلة للسلع (CFTC)، حيث قامت كلاهما بتكثيف المساعي القانونية الموجّهة ضد منصات التداول الكبرى بما فيها بينانس وكوينبيس (Coinbase)، حيث تدّعي اللجنتان قيام المنصتين ببيع أوراقٍ ماليةٍ غير مسجّلةٍ بشكلٍ غير قانونيّ (إلى جانب العديد من الاتهامات الأخرى).

وأكدّت الجهات القانونية أنها لن تتهاون مع التقصير في الالتزام القانوني؛ حتى لو كان من قبل جهةٍ عملاقةٍ مثل بينانس، ويمكن أن تؤثر التسوية القضائية -بقيمة 4.32 مليار دولار- على المنصة بشكلٍ كبير، فقد تضعف قدرتها على المنافسة إلى جانب إعاقة نموّ سوق الكريبتو بأكمله، حيث يعتبر مبلغ التسوية مهولاً -حتى بالنسبة لشركةٍ ضخمةٍ مثل بينانس- ويمكن أن يضغط عليها ويقودها للبحث عن صيغةٍ جديدة لنموذجها التجاريّ.

هل سنشهد حملةً قانونية واسعة المدى في قطاع الكريبتو؟

تُعتبر قضية بينانس آخر تحديثٍ في سلسلة الإجراءات القانونية التي تستهدف قطاع الكريبتو، حيث قامت SEC في الأشهر الماضية ببدء التحقيقات حول العديد من اللاعبين الكبار في القطاع -بما فيهم كوينبيس وGemini وPaxos- مدّعيةً خرقهم لقوانين الأوراق المالية، كما قامت CFTC بتكثيف مساعيها التنفيذية ورفعت قضايا ضد العديد من شركات الكريبتو بتهمة عرض مشتقاتٍ غير مسجلة.

وفي سياقٍ متصلٍ؛ تطالب الجهات القانونية في الكونجرس بتشديد الرقابة على قطاع الكريبتو، حيث يدعم كلا الحزبين الإجراءات المماثلة لقانون STABLE -الذي من شأنه تنظيم العملات المستقرة– وقانون حماية مستهلكي السلع الرقمية الذي سيمنح لجنة CFTC سلطةً أكبر على أسواق الكريبتو، فيما تُعتبر قضية بينانس إشارةً واضحة لنهاية تساهل الجهات القانونية مع قطاع الكريبتو، ويجب أن تستعدّ الشركات -بعد هذا الانتصار- لإجراءاتٍ قانونيةٍ أكثرَ شدّةً وزيادة السعي لصياغة قوانين شاملةٍ للقطاع في الأشهر القادمة.

ويستعد المدراء التنفيذيون لمنصات تداول الكريبتو البارزة -مثل كوينبيس وكراكن (Kraken)- لمواجهة اتهاماتٍ مماثلةٍ في حال فشل شركاتهم بالامتثال للقوانين المطلوبة كما حدث مع تشاو وبينانس، ويجب على منصات التداول في الولايات المتحدة توخّي الحذر خصوصاً من ناحية قوانين تبييض الأموال، حيث تُشتهر منصة كوينبيس بامتلاكها قواعد صارمةً للتحقق من هوية العملاء (KYC) منذ عدة سنوات -على عكس بينانس- وتُجبر مستخدميها على تأكيد هويتهم لمنع غسيل الأموال.

يمكن اعتبار محاكمة تشاو نقطةً فاصلةً في تاريخ القطاع تبشّر بحقبةٍ جديدة من التشديد القانونيّ والمحاسبة، وقد تبدو عقوبة 4 اشهرٍ في السجن قليلةً بالنسبة للبعض؛ إلا أنها تشكّل رسالةً قويةً مفادُها غياب الحصانة عن أهم الشخصيات والشركات في قطاع الكريبتو في حال خرقها للقوانين المالية في الولايات المتحدة.

ومع استمرار قطاع الكريبتو بالنموّ والتطوّر، يتوجّب على الشركات منح الأولوية للالتزام بالقوانين وتطبيق برامج صارمةٍ لمكافحة غسيل الأموال تجنّباً لمصير بينانس ومؤسّسها.