قرص سيليكون وفوقه جزء من آلة ضمن عملية تصنيع شرائح أنصاف النواقل

تم إقرار قانون الشرائح الأمريكيّ في عام 2022 ضمن إطار الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة الأمريكية لاستعادة مركزها الرياديّ في صناعة أنصاف النواقل، والتي تتركز حالياً بيد عددٍ قليلٍ من الشركات والبلدان خارج الولايات المتحدة، ما يجعل الاقتصاد الأمريكي معتمداً كلياً على تايوان وغيرها من الشركاء التجاريين. وهكذا، من المفترض أن يساعد قانون الشرائح الأمريكي في بناء صناعة أنصاف النواقل الخاصّة بالولايات المتحدة بما يحقق لها الاكتفاء الذاتي، ويساهم بدعم الاقتصاد بشكلٍ عام. ولكن هل سينجح هذا القانون بتحقيق ذلك؟

كانت شركات الصناعة العملاقة بما في ذلك إنتل (Intel) وسامسونغ (Samsung) وTSMC ومايكرون تكنولوجي (Micron Technology) من بين الشركات التي تلقّت تمويلاً لتحقيق هذا الهدف، حيث تم الإعلان عن 327 مليار دولار من الاستثمارات التي تلقوها مجتمعين وقد تعهّدوا باستخدامها لإعادة تشكيل المشهد التكنولوجي وسلاسل التوريد في البلاد خلال العقد المقبل.

مع منح هذه الشركات 39 مليار دولار من أصل مبلغ 52.7 مليار دولار تُخطط الحكومة لإنفاقه من أجل مساعدتها على توسيع قدراتها التصنيعية، يبدو أنه الوقت المناسب لتحليل مدى نجاح البرنامج حتى الآن.

أمريكا تهدف إلى تصنيع ما يصل إلى 20% من أنصاف النواقل المتطوّرة على مستوى العالم بحلول عام 2030

يتمثّل الهدف الأساسي لقانون الشرائح بتشجيع الشركات على المشاركة في تطوير وبناء المزيد من منشآت التصنيع، بما يساهم في تقليل اعتماد البلاد على الشركات الآسيوية المورّدة (التايوانية في الغالب).

ويتم تصنيع جميع الشرائح ووحدات المعالجة المتطوّرة تقريباً في مصنع TSMC في تايوان. وغالباً ما تُعزى هيمنتُها على هذه الصناعة إلى اليد العاملة الماهرة في تايوان وتوفير الإعانات الحكومية وعملها بنجاح مع سلسلة التوريد العالمية وتوفّر التمويل الهائل، وذلك بالنظر إلى أن المعَدَّات اللازمة لإنتاج هذه الأنواع من الشرائح تُعَد باهظة الثمن. غير أن هذه الحالة من الاعتمادية تُعرّض الولايات المتحدة لخطرٍ كبير باعتبار أن تايوان تبقى محلَّ نزاع، حيث تدّعي الصين حقها في السيادة عليها.

وقد أبرزت التوترات في تلك المنطقة أهميةَ تحقيق الاكتفاء المحليّ واستقلال الإنتاج داخل الأراضي الأمريكية لمنع أيّ حدثٍ عسكري -أي غزو الصين لتايوان- من تعطيل تقدم صناعة التكنولوجيا الأمريكية أو حتى حرمان البلاد من المكوّنات الأساسية المطلوبة لتجميع وتصنيع الأجهزة الإلكترونية الاستهلاكية الأساسية.

فحرمان الولايات المتحدة من شرائح أنصاف النواقل التايوانية، سيفضي إلى تعطُّل عددٍ من النشاطات الاقتصادية، وبخاصّةٍ الإلكترونيات والسيارات، على غرار نقص الشرائح الذي حدث خلال جائحة كوفيد-19.

يمكنكم أن تقرؤوا أيضاً: شركات تصنيع الشرائح الأمريكية المموَّلة بموجب قانون الشرائح تريد الحفاظ على وجودها في الصين

من جانب آخر، يبدو أن النتائج المبكّرة لقانون الشرائح إيجابيةٌ تماماً، فالإحصائيات تُظهر زيادةً بمقدار 15 ضعفاً في بناء منشآت تصنيع الحواسيب والأجهزة الإلكترونية الأخرى، حيث بدأت الشركات الرائدة بتصنيع الشرائح في العالم -بما في ذلك تلك المذكورة أعلاه- بناء منشآت تصنيع كبيرةٍ في البلاد، وأعلنت شركة إنتل عن عزمها تصنيع شرائحِها الأكثر تقدماً في الولايات المتحدة نفسها.

وتشير وزيرة التجارة الأميركية جينا رايموندو (Gina Raimondo) إلى أنه من المرجّح أن تنتج الولايات المتحدة نحو 20% من أكثر الشرائح تقدّماً في العالم بحلول عام 2030، وذلك ارتفاعاً من 0% حالياً. وتؤكد هذه التوقّعات على نجاح البرنامج حتى الآن بتحفيز الاستثمارات الضخمة داخل هذا القطاع لإعادة تشكيل المشهد العالميّ لأنصاف النواقل.

وقالت رايموندو في تصريح قدّمته حول تقدم البرنامج في أواخر شباط/ فبراير من العام الجاري: “أعتقد أن بإمكان الولايات المتحدة أن تصبح مركزاً لسلسلة توريد السيليكون بالكامل لإنتاج الشرائح المتطوّرة -من إنتاج البوليسيليكون إلى تصنيع شرائح السيليكون، وصولاً إلى التعبئة والتغليف المُتقدمَين”.

بقيمةٍ إجماليةٍ تبلغ 27.6 مليار دولار: تقديمُ أربع مِنح ضخمةٍ لدعم صناعة الشرائح

مخطط بياني بمقدار المنح المقدمة من الحكومة الأمريكية للشركات من أجل تطوير صناعة الشرائح المتقدمة في البلاد

يكشف جدولٌ أعدّته شركة Semiconductor Intelligence (SI) وصولَ إجمالي استثمارات مشاريع التصنيع الكبرى في الولايات المتحدة التي تمّ الإعلان عنها في السنوات الأخيرة إلى 142 مليار دولار، إلا أنه تم الإعلان عن معظم هذه المشاريع قبل إقرار قانون الشرائح، ما يشير إلى أن الشركات كانت تتوقع مسبقاً الحصول على إعاناتٍ مستقبليةٍ من جانب حكومة الولايات المتحدة.

وفيما يلي ملخصٌ لبعض الالتزامات والتقدّم الذي أحرزته بعض أهمّ الشركات في هذه الصناعة حتى الآن، وذلك وفقاً لبيانات شركة Semiconductor Intelligence ومصادرَ أخرى.

  • شركة TSMC: مقرّها تايوان، وتمتلك أكبر مصنع للشرائح المتقدّمة في العالم على الإطلاق، وقد بدأت ببناء منشأة تصنيع في أريزونا. وربّما تعرّضت هذه الشركة التايوانية لضغوط من كلٍّ من الحكومة والعملاء الأمريكيين لدفعها للمشاركة في قانون الشرائح، ما يؤدي لتقليل اعتمادهم على قدرتها التصنيعيّة في الخارج. وقد حصلت الشركة على 6.6 مليار دولار من الحكومة في نيسان/أبريل من هذا العام.
  • شركة Intel: تقوم شركة إنتل (Intel) ببناء منشآتٍ كبيرة في مواقع متعدّدة من الولايات المتحدة بما في ذلك أريزونا وأوريجون ونيو مكسيكو، بعدما تلقّت الشركة ما مجموعه 8.5 مليار دولار من الحكومة الفيدرالية لبناء وتوسيع مرافقها في البلاد، ما يجعلها أكبر متلقٍ لهذه المنح حتى الآن.
  • شركة مايكرون تكنولوجي (Micron Technology): تعمل هذه الشركة مسبقاً في بناء مصانع جديدة في كلٍّ من بويسي في ولاية أيداهو، وكلاي في نيويورك. بالإضافة لذلك، أتى قرار الشركة بتوسيع قدراتها التصنيعيّة في الولايات المتحدة متأثراً بشدةٍ بقانون الشرائح. وتلقت شركة مايكرون منحةً مقدارها 6.1 مليار دولار بموجب قانون الشرائح، وقالت إنّها تخطط لاستثمار أكثرَ من 50 مليار دولار حتى عام 2030 بغرض بناء منشآتٍ لتصنيع الذواكر المتطوّرة في البلاد.
  • شركة سامسونغ (Samsung): حصلت شركة التكنولوجيا الكورية الجنوبية العملاقة على ما يصل إلى 6.4 مليار دولار كتمويلٍ مباشر من الحكومة الفيدرالية في نيسان/أبريل من هذا العام لبناء منشأة تصنيع جديدة في مدينة تايلور بولاية تكساس. وتعتزم الشركة استثمارَ ما لا يقل عن 40 مليار دولار في الولاية خلال السنوات القليلة المقبلة، ما سيجعل هذه المدينة واحدةً من أكبر مراكز تصنيع أنصاف النواقل في البلاد.

ضرورة مواكبة الولايات المتحدة للمنافسة الدولية

في حين دفع قانون الشرائح الشركاتِ إلى الالتزام باستثماراتٍ كبيرة سيتم القيام بها في البلاد خلال السنوات الخمس المقبلة تقريباً؛ إلا أنه يجب أن نذكرَ أنّ الولايات المتحدة ليست وحدَها في هذا المسعى؛ إذ تعمل العديدُ من الدول الأوروبية وكوريا الجنوبية واليابان وتايوان والصين على تكثيف جهودها لدعم وتحسين صناعاتها في مجال الشرائح المتقدّمة، ضمن ما يبدو كسباقٍ عالميّ متسارع لإنتاج أنصاف النواقل المتقدمة في جميع أنحاء العالم.

يمكنكم أن تقرؤوا أيضاً: المملكة المتحدة تُخصّص مبلغاً لا يزيد عن 1.2 مليار دولار للاستثمار في أنصاف النواقل

في هذا الإطار، توقعت دراسةٌ أجرتها مجموعة بوسطن الاستشارية بتكليفٍ من رابطة صناعة أنصاف النواقل أن حصّة الولايات المتحدة من إنتاج الشرائح على مستوى العالم سترتفع إلى حوالي 14% بحلول عام 2032، مقارنةً بـ 12% في عام 2020. وبينما تبدو هذه الزيادة الإجمالية متواضعةً، إلا أنها تمثل تحوّلاً كبيراً عن الانخفاض الذي كان متوقعاً بنسبة 8%، والذي كان قادماً بلا شكٍّ لولا قانون الشرائح.

ومن الجدير بالذكر أنّ الدراسة تتوقع نموّ حصة الولايات المتحدة من الصفر إلى 28% بحلول عام 2032 فيما يخص مصانع الشرائح المتطوّرة، والتي تتطلب نفقاتٍ تصل إلى عشرات المليارات من الدولارات. بالمقارنة مع ذلك، فإن هذا التقدير يبدو أكثر تفاؤلاً من توقعات وزيرة الطاقة رايموندو الأخيرة والتي تحدّثت فيها عن نسبة 20% بحلول نهاية العقد الحالي.

نزاعات العمالة والدراسات البيئية الطويلة تبرز كعوامل خطورةٍ أساسية

بالرغم من نجاحه المبكر في جذب الاهتمام والالتزام من قبل الشركات الكبرى في القطاع؛ يرتبط نجاح قانون الشرائح (Chips Act) بقدرة هذه المشاريع على مواجهة التحدّيات المعقّدة بما فيها نزاعات العمالة وتكاليف البناء الأعلى من المتوقّع والدراسات البيئية طويلة الأمد التي يمكن أن تؤخر مواعيد الإطلاق المُنتظرة؛ كما يُعدّ بناء مصانع الشرائح عمليةً مكلفةً يصعب أن تجدوا ما يضاهيها (حتى المفاعلات النووية تُعتبر خارج المقارنة).

ويُقدّر البعض كلفة المنشأة الواحدة -التي تُصدِر شرائحَ متطوّرةً- بحدود 20 مليار دولار. بتعبيرٍ آخر، يمكن للحكومة الفيدرالية بناء ثلاث منشآتٍ بمفردها في أحسن الأحوال، وقدّ علق المدير التنفيذي السابق لإحدى هذه الشركات أجيت مانوتشا (Ajit Manocha): “قد يكفي هذا لدعم بضع وحدات تصنيع كبيرة فقط، ولكنّها نقطة بداية جيدة”.

يعني ذلك ضرورة التعاون مع الشركات الكبرى في القطاع لتحقيق الهدف الأسمى المتمثل بجعل الولايات المتحدة قوّةً عظمى في قطاع أنصاف النواقل، وأضاف مانوتشا: “أنا متأكدٌ من فهم وزارة التجارة -والحكومة عموماً- لحجم الفجوة التي نُحاول سدَّها”.

ثلاث شركاتٍ -وأسهم- يمكنها الاستفادة من الـ Chips Act

حشودٌ من المستثمرين تبحث عن وسيلةٍ للاستفادة من التمويل الكبير الذي يقدّمه قانون الشرائح، ويوجد بعض المرشحين الواضحين للاستفادة من هذا القانون الجديد:

  1. إنتل (Intel-INTC)

تُعتبر إنتل (Intel-INTC) الأكثرَ استعداداً لزيادة قدراتها الإنتاجيّة محليّاً بصفتها أكبر متلقٍّ للمنح حتى الآن، حيث تملك الشركة خطةً لتصنيع أكثر شرائحها تطوّراً في الولايات المتحدة، ويتوافق هذا بشكلٍ مثاليّ مع أهداف القانون الجديد. وفي حال نجاح هذا المخطط، يمكن أن تصبح إنتل صانع الشرائح الأكبر في المنطقة وستمتلك القدرة على تقديم أسعارٍ منافسةٍ وأوقات تسليمٍ أقصر، وقد يمنحها هذا حصّةً أكبرَ من سوق القارّة على المدى الطويل.

  1. Micron Technology (MU)

حصلت الشركة على تمويلٍ يتجاوز 6 مليار دولار لمشاريعها في آيداهو ونيويورك، ومن المخطّط له أن تُصبح لاعباً كبيراً في قطاع تصنيع ذواكر الوصول العشوائي الديناميكية (DRAM) في السوق المحليّة، وتخطط الشركة لإنتاج 40% من ذواكرها ضمن الولايات المتحدة لتخفيف الاعتماد على المنشآت خارج البلاد، وتتوازى هذه الزيادة في الإنتاج المحليّ مع ارتفاع الطلب على شرائح الذاكرة لاستخدامها في تطبيقات الذكاء الاصطناعي، ويتلاءم هذا بشكلٍ مثاليّ مع أهداف الشركات الكبيرة في هذا القطاع الحديث والنامي مثل مايكروسوفت (Microsoft-MSFT) وألفابيت (Alphabet-GOOG) وأمازون (Amazon-AMZN).

  1. إنفيديا (NVIDIA-NVDA)

لا تُعتبر إنفيديا (NVIDIA-NVDA) متلقّياً مباشراً لمِنح قانون الشرائح ولكنّها ستستفيد بشكلٍ كبير من الإنتاج المحلي المتزايد للشرائح المتطوّرة من قبل الشركات التي تخطط لبناء منشآت تصنيع محليّة، وتعتمد إنفيديا -بصفتها مُصمّماً رائداً لشرائح الذكاء الاصطناعيّ- على الشركات المصنّعة مثل TSMC لبناء منتجاتها. ومع توجّه هذه الشركات لبناء وحدات تصنيع متطوّرة ضمن الولايات المتحدة؛ ستستفيد إنفيديا من وصولٍ أسرَع للسوق وتحسين عمل سلاسل التوريد وإمكانيةٍ لخفض التكاليف حتى، كما يُمكن لتطوير سلاسل التوريد المحلية أن يساعد إنفيديا في تلبية الطلب المرتفع جداً على منتجاتها وخاصّةً شرائح الذكاء الاصطناعي.

يمكنكم الاطلاع على: هل يمكن لإنفيديا أن تحمي عرشها في قطاع الذكاء الاصطناعي؟ هؤلاء المنافسون يحاولون الاستيلاء عليه

إن كنتم مهتمّين بمعرفة المزيد عن صراع الهيمنة على قطاع الشرائح في الولايات المتحدة، يمكنكم الاطلاع على وثائقي صحيفة Financial Times حول هذا الموضوع على يوتيوب.

بداية قوية، لكنّ معظم العمل الفعليّ ما يزال أمامنا

اتخذ قانون الشرائح (Chips Act) -خلال سنتين- خطواته الأولى في مهمّة إنعاش صناعة أنصاف النواقل في الولايات المتحدة، ولكنّ المستقبل مليءٌ بالعقبات والمتغيّرات المجهولة ويجب على الشركات الآن بدء العمل وتجاوز التحديات المرتبطة ببناء منشآت التصنيع الكبرى. وما تزال الرحلة في بدايتها في ظلّ اشتداد المنافسة العالمية على تصنيع أنصاف النواقل، حيث إن التكلفة العالية لإنتاج الشرائح المتطوّرة تَحدّ بشكلٍ كبير حتّى ممّا يستطيع برنامجٌ وقرارٌ تاريخيٌّ مثل هذا فعله.

وتحدّثت وزيرة التجارة رايموندو عن الموضوع قائلةً: “إنّنا نتحرّك بسرعةٍ، ولكنّ الأهمَّ هو تركيزنا على التنفيذ الصحيح وسعيُنا لتحقيق أهداف الأمن القومي … سنقوم سويةً بإعادة بناء قاعدتنا الصناعية ودعم الابتكار الأمريكي وتوفير المئات والآلاف من الوظائف جيّدة الدخل، بالإضافة لمُجاراة تحدّيات العصر الحالي الكبيرة”.