مبنى باللونين الفضي والرمادي ذو نافذتين وأمامه يعض أشجار النخيل، وخلفه مبنى آخر ضخم يحمل اسم شركة بوينج

تسعى جهة الادعاء العام الأمريكي للحصول على إقرارٍ بارتكاب الذنب من شركة الخطوط الجوية الأمريكية بوينج (Boeing) بشأن تضليل الجهات التنظيمية المعنيّة بإجراءات السلامة الخاصة بتطوير طائراتها من طراز بوينج 737 ماكس، والتي تعرّضت لحادثين مأساويين. ومع اقتراب إسدال الستار على فصول هذه القضية المثيرة للجدل بعد مضيّ نحو ست سنواتٍ على وقوعها مع الإقرار المتوقع بالذنب من جانب الشركة، أعرب أحد المحامين الممثلين لذوي ضحايا الحادثتين عن مخاوفه بشأن إمكانية إفلات الشركة العملاقة لتصنيع الطائرات بسهولةٍ من تبعات القضية عبر صفقةٍ “ودّيةٍ” مُحبّبةٍ للشركة حسب وصفه.

وللتذكير، فقد بدأت مشاكل بوينج الأخيرة عندما تحطمت طائرتان جديدتان من طراز 737 ماكس خلال فاصل زمنيّ قصير لم يتجاوز بضعة أشهرٍ فقط بين عامي 2018 و2019 في إندونيسيا وإثيوبيا، ما أدى إلى وفاة 346 راكباً في الحادثتين؛ والغريبُ في الأمر أنّ الشركة -بعد الحادث الأول- سمحت لطائراتها من طراز 737 ماكس بالطيران مجدّداً رغم أنها لم تكن قد حدّدت سبب الكارثة الأولى، ما أدى مباشرةً إلى حادثٍ مأساويّ ثانٍ.

وبعد وقوع الحادث الثاني، تم إيقاف إقلاع هذا الطراز من الطائرات عالمياً لمدة 20 شهراً، لتتمكّن شركة بوينج من الوصول -في النهاية- إلى تسويةٍ مع وزارة العدل الأمريكية تم تغريمها بموجبها مبلغ 2.5 مليار دولار لتأجيل المقاضاة وتجنّب الملاحقة القضائية بتهمةٍ واحدةٍ تتعلق بالاحتيال. ومع أن التسوية تحمي شركة بوينج من الملاحقة القضائية، إلا أنها لم تمنح أيَّ حصانةٍ للموظفين الذين قد يثبت إهمالهم وتورّطهم بتهم تتعلق بسوء السلوك، لكنّها -في ذات الوقت- لم تلاحق أحداً من موظفي الشركة أو مسؤوليها حتى الآن أيضاً.

مسلسل الحوادث المتعلقة بالسلامة يتواصل في طائرات بوينج

في وقتٍ سابق من هذا العام، انفصل لوح بابٍ في إحدى طائرات 737 ماكس أثناء رحلةٍ لشركة طيران ألاسكا. وفي حادثٍ وقع مؤخراً، سقط غطاء محرك طائرة بوينج 737-800 تابعةٍ لشركة الخطوط الجوية ساوث ويست (Southwest) أثناء إقلاعها في شهر نيسان/أبريل الماضي.

وفي أيار/مايو، صرّحت وزارة العدل بأن شركة بوينج انتهكت شروط تسوية عام 2021 التي حمتها من التُّهم الجنائية، وبالتالي فقد أصبحت الآن معرّضةً للملاحقة القضائية. ومع أنها لم تشهد أيَّ حوادثَ خطيرةً أخرى من بعدها وحتى الآن، إلا أن الشركة غرقت بموجاتٍ متلاحقةٍ من جلسات الاستماع القاسية في الكونجرس بفعل شهادات المبلغين عن المخالفات فيها؛ وأتت شهادة الرئيس التنفيذيّ لشركة بوينج ديف كالهون (Dave Calhoun) الشهر الماضي كارثيةً، ما دفع المشرّعين لتحميله وكبار مسؤولي الشركة المسؤوليةَ إزاء مشاكل السلامة التي تعاني منها بوينج.

ولتحسين امتثالها لإجراءات السلامة، وافقت بوينج على صفقة شراء شركة Spirit AeroSystems مقابل 4.7 مليار دولار، وكانت هذه الشركة -التي انفصلت عنها بوينج عام 2005- مسؤولةً عن تجهيز طائرة 737 ماكس أثناء رحلة شركة الخطوط الجوية ألاسكا التي طارَ لوح بابها في وقتٍ سابقٍ من هذا العام.

الادعاء العام الأمريكي يدفع باتجاه إقرار الشركة بالذنب أمام وزارة العدل

وفقاً لما توارد من أنباء، يسعى مدّعون عامون أمريكيون للحصول على إقرار من شركة بوينج بارتكاب الذنب، وأمامَها فرصةٌ حتى نهاية الأسبوع الحالي لقبول الإقرار أو خوض نزاع قضائيّ يتعلق بالتآمر وممارسة الاحتيال. وكجزءٍ من إقرارها بالذنب، ستُضطر بوينج لدفع غرامةٍ إضافيةٍ قدرُها 243 مليون دولار، كما سيتعيّن عليها الموافقة على تعيين جهةٍ استشاريةٍ مستقلةٍ لمراقبة امتثالها لقوانين السلامة الجوية.

في هذه الأثناء، أبدت أُسر ضحايا حادثتي تحطم طائرتي طراز 737 ماكس عدم رضاها إزاء صفقة الإقرار بالذنب، والتي -كما هو واضح تماماً- ستُمكّن شركة بوينج من الإفلات بسهولةٍ من العقاب، فيما وصفها المحامي باول كاسيل (Paul Cassell) -ممثل أسر الضحايا- بأنها “صفقةٌ ودّيةٌ” مواتيةٌ لأهواء الشركة.

وقال كاسيل في تعليقه حول ذلك: “إن ذكرى 346 بريئاً قتلوا على يد شركة بوينج تتطلب عدالةً أكثر فعاليةً”، ومن المتوقع أن تعترض أسر الضحايا على صفقة الإقرار بالذنب المقترحة. وبالفعل، يصعب أن نتخيل أن تتسبب شركةٌ أو جهةٌ أخرى أقل أهميةً بإهمالٍ يودي بحياة أكثر من 300 شخص، ويبقى مسؤولوها خارج دائرة الاتهام تماماً!

يُذكر أن المحامي كاسيل وجّه الشهر الماضي خطاباً إلى وزارة العدل الأمريكية، ذكر فيه أن العائلات تطالب بمقاضاة كبار مسؤولي شركة بوينج، وبتوقيع غرامةٍ قدرُها 24.8 مليار دولار كتعويضاتٍ عن “أخطر جريمةٍ ارتكبتها مؤسسةٌ على امتداد تاريخ الولايات المتحدة”.

تتصاعد أيضاً مخاوفُ بشأن الإجراءات القانونية المتبعة في هذه القضية، فقد عملت ليزا موناكو (Lisa Monaco) -نائبة المدعي العام في وزارة العدل- لدى أحد عملاء شركة بوينج، وهي شركة المحاماة West Exec Advisors للاستشارات القانونية، كما أشار الصحفي البارز بموقع TheLever -ديفيد سيروتا (David Sirota)- إلى أن موناكو هي من سيقرّر ما إذا كانت بوينج ستتم مقاضاتها من قبل وزارة العدل، لذلك فمن غير المستبعد أن تتحصّل بوينج على تسويةٍ وديةٍ أخرى تصبُّ في مصلحتها، وإذا لم يكن ذلك مقنعاً بشكلٍ كافٍ، فيكفي معرفةُ أن وزير الخارجية الأمريكي الحالي أنتوني بلينكن هو أحد المشاركين في تأسيس شركة الاستشارات القانونية هذه.

ماذا يعني الإقرار بالذنب بالنسبة لسهم شركة بوينج؟

حتى الآن، نجحت بوينج بتفادي الإقرار بأيّ ذنبٍ، ما يعني عدم اعترافها رسمياً بارتكاب أيّ مخالفاتٍ، ويمكن أن يؤدي الإقرار بالذنب إلى تعقيد المشهد بالنسبة لعلامة بوينج التجارية المتدهورة بالأساس، إذ قد يتم منعُها أو تعليق عملها كموفّر خدماتٍ للصناعات الدفاعية الأمريكية، إلا أن هذا يبدو غير مرجّحٍ، نظراً لأهمية دورها في هذا المجال.

ويشكّل قطاع الدفاع والفضاء والأمن لدى بوينج محركاً رئيسياً لنموّ إيراداتها، حيث حققت الشركة خلال الربع الأول من عام 2024 إيراداتٍ بنحو 7 مليارات دولار، ليتفوّق هذا القطاع على مبيعات الشركة من الطائرات التجارية التي بلغت قيمتها 4.65 مليار دولار. وبينما قد يُعزى تراجع مبيعاتها التجارية إلى تأخر عمليات التسليم بعد أن أعطت الأولويةَ للسلامة على حساب الكمّ بعد توالي الحوادث، إلا أنه لا يمكن تجاهلُ أهمية هذا القطاع كمصدرٍ هامٍ لأرباح بوينج.

مخطط بياني لعائدات بوينج تبعاً للأرباح الفصلية بين عامي 2022 و2024

واقع الاحتكار الثنائي لصناعة الطائرات قد ينقذ أسهم بوينج

تم تداول أسهم بوينج على انخفاضٍ بالأمس رغم الاتجاه الإيجابيّ العام للأسواق. وعلى الرغم من مشاكلها العديدة، أبقى بعض المحللين على نظرتهم الإيجابية لسهم بوينج، وذلك بفضل حقيقة أن قطاع صناعة الطائرات يخضع واقعياً لاحتكار ثنائيّ.

يُشار هنا إلى أن شركة صناعة الطائرات المملوكة للحكومة الصينية COMAC تحاول أيضاً التوسّع دولياً، وفيما لا تزال شركة COMAC -دون شك- مُنتِجاً لم تعتَد على تجربته شركات الطيران العالمية، وقد لا تتلقى أي طلباتٍ من شركات الطيران الغربية في المدى المنظور على الأقل، إلا أن بوينج بالمقابل ليس لديها ما تفتخر به أيضاً بخصوص المصداقية، أو على الأقل هذا هو التصوّر الذي تشكّل لدى الرأي العام حيال علامتها التجارية على مدى العامين الماضيين.

وبشكلٍ عام، يبدو أن الاحتكار الثنائي لصناعة الطائرات قد يُنقذ شركة بوينج، فلربّما تعطلت أعمالُ الشركة لو أنها كانت ساحةً عملٍ تتسم بالتنافسية. ومع ذلك، فالإقرار بالذنب قد يؤدي إلى تعطيل إنتاجها في المجال الدفاعيّ، سواءً داخل الولايات المتحدة أو على مستوى العالم، وقد تنتهي تساؤلات المُشرّعين بإثارة علامات استفهامٍ كثيرة حول جدوى إنفاق مبالغَ طائلةٍ على شراء طائراتها، من حيث إنها لم تَعُد مثالاً يُحتذى فيما يخص مواضيع السلامة.