في قرارٍ مثيرٍ للجدل جاء بأغلبية 6 إلى 3 أصوات، ألغت المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأمريكية هذا الأسبوع حكماً يقضي بإدانة عمدةٍ سابقٍ في ولاية إنديانا بتهمة الرشوة، في قرارٍ اعتبره خبراء قانونيون تضييقاً لنطاق القانون الفيدرالي لمكافحة الفساد في القطاع العام. ويمكن لهذا الحكم -الذي جاء مفاجئاً للأوساط القانونية والسياسية- أن يشكّل سابقةً مثيرةً لكيفية مقاضاة المتهمين من المسؤولين الحكوميين بالرشوة في المستقبل، فهذا القرار من شأنه إعادة تعريف الرشوة وتغيير وجه قطاع العمل العام داخل الولايات المتحدة بالكامل.
تدور أحداث هذه القصة المثيرة للجدل حول جيمس سنايدر (James Snyder)، عمدة مدينة بورتاج السابق في ولاية إنديانا، والذي أُدين عام 2019 بقبوله مبلغ 13,000$ من شركةٍ لجمع القمامة بعد أن منحها عقوداً بقيمةٍ تقارب المليون دولار. وبالطبع، أُدين سنايدر بالفساد وحكمت عليه المحاكم المحلية بالسجن الفيدرالي لمدة 21 شهراً، إلا أنه دافع عن نفسه بقوله إن الشيك المصرفيّ الذي تلقّاه لم يكن مخالفاً للقانون، لأنه حصل عليه بعد منح العقد وليسَ قبله، غيرَ أن أحد مسؤولي الشركة التي فازت بالعقد اعترف بأن سنايدر كان يعاني من صعوباتٍ ماليةٍ حينها، وطلب صراحةً أموالاً مقابل انتقائها تحديداً.
صراع الآراء بين قضاة المحكمة العليا
وفقاً لرأي الأغلبية الذي صاغه القاضي بريت كافانو (Brett Kavanaugh)، فقد قضت المحكمة العليا بأن قانون مكافحة الرشوة الفيدراليّ المشار إليه -في المادة 666 منه- لا يجرِّم الإكراميات المقدَّمة لمسؤولي الولايات والمسؤولين المحليين عطفاً على الإجراءات التي اتخذوها مُسبقاً، وهو تفسيرٌ يمثل انحرافاً كبيراً عن الكيفية التي كان يُطبَّق فيها القانون سابقاً.
وقد حدّد القاضي كافانو ستة أسبابٍ دفعت المحكمة لاتخاذ هذا القرار، وزعم أن نصّ المادة 666 مُصاغٌ على غرار قانون مكافحة الرشوة الفيدرالي وليس الخاص بالإكراميات، كما أن الكونجرس عدَّل القانون عام 1986، وأبعد صيغته عن تلك المشابهة لقانون الإكراميات.
كما زعم كافانو أنه من غير المعتاد أن يشمل قانونٌ واحدٌ كلاً من الرشوة والإكراميات، والتي يتم التعامل مع كلٍّ منها عادةً كجرائم منفصلةٍ، وأعرب رأي الأغلبية عن قلقهم من أن تفسير الحكومة من شأنه أن يخلق “نظاماً لا يمكن استيعابه” يساوي في العقوبة بين قبول الرشى والإكراميات، كما سعى الحكم إلى احترام حق الولايات والحكومات المحلية في تنظيم قوانين الإكراميات التي تُمنَح لمسؤوليها.
أخيراً، زعم كافانو أن تفسير الحكومة يمكن أن يُجرِّم الممارسات الشائعة دون أدلةٍ واضحة، وجاء بنص رأيه المكتوب: “قد تكون بعض الإكراميات إشكاليةً، إلا أن بعضها الآخر مألوفٌ ولا ضيرَ فيه، والأمور قد لا تكون واضحةً دائماً، خاصةً وأن العديد من المسؤولين الحكوميين والمحليين يشغلون وظائف أخرى”.
ثلاثة قضاة عارضوا بشدة رأي الأغلبية
اختلف قضاة المحكمة الثلاثة الليبراليون بشدةٍ مع تفسير الأغلبية، ولإظهار معارضتهم الحادة أعربت القاضية كيتانجي براون جاكسون (Ketanji Brown Jackson) -إلى جانب القاضيتين سونيا سوتومايور (Sonia Sotomayor) وإيلينا كيغن (Elena Kagan)- عن آراء ناقدةٍ بشدة للحكم، مؤكدةً على أن النص الصريح للقانون يغطي بوضوح الإكراميات التي تُدفع للمسؤولين بعد اتخاذهم للقرار أيضاً.
وكتبت القاضية جاكسون: “إن التفسير غير المنطقي الذي يُخرج نص القانون عن سياقه في حالة سنايدر يمثّل منهجية تفسير لم يسبق لمحكمةٍ -سوى المحكمة الحالية- أن اتبعتها”، مشدّدةً على أن التفسير الذي تبنّته الأغلبية يتجاهل الصياغة الواضحة للقانون الذي يهدف إلى اجتثاث الفساد داخل المصالح العامة.
خبراء قانونيون يرون أن المحكمة العليا تواصل تقويض قوانين مكافحة الفساد العام
زعم خبراء قانونيون أن المحكمة العليا كانت تعمل خلال الآونة الأخيرة على تقويض نطاق تطبيق القوانين الفيدرالية لمكافحة الفساد داخل المصالح العامة، مُعربين عن مخاوفهم بشأن العواقب التي قد تطال النظام القضائيّ للبلاد جرَّاء هذه السابقة.
يُذكر أنه من المتوقع أن تترتب عواقب مباشرةٌ للحكم على قضايا الفساد الجارية في كافة أنحاء البلاد، حيث عقب رايان ليفيت (Ryan Levitt) -المحامي المتخصّص بالدفاع عن الموظفين الحكوميين- على القرار بقوله: “سنشهد الكثير من حالات الاستئناف”.
ويبدو أن قرار المحكمة العليا من شأنه أن يُصعّب على المدّعين العامين إدانة السياسيين الفاسدين في الولايات والبلديات. وفي هذا الصدد، يقول كيدريك باين نائب رئيس مركز الحملة القانونية: “إنه لأمرٌ صادمٌ، لكنه ليس بمستغرب أن يصدر حكم المحكمة على هذا النحو. فهذا [القرار] يجعل من الصعب ملاحقة الفاسدين في المصالح العامة، ويمثل امتداداً لنهج اتبعته المحكمة منذ فترة”.
علاوةً على ذلك، من الواضح أن هذا الحكم يشجع حكومات الولايات والحكومات المحلية على سنّ قوانينَ وتشريعاتٍ داخليةٍ لمعالجة هذا النوع من القضايا بدلاً من اللجوء إلى المحاكم الفيدرالية للنظر في قضايا الفساد. ومن البديهي ألا يود الكثير من الساسة في هذه الحكومات تمرير قوانين تعزّز مكافحة الفساد، إذ كيف لهم أن يُقرّوا قوانين تسهّل إدانتهم أنفسهم لاحقاً دون ضغوطٍ هائلةٍ من الناخبين؟ لذا، فمن المرجّح أن يؤدي هذا القرار إلى اختلافاتٍ كبيرة بين الولايات حول كيفية التعامل مع الإكراميات والرشاوى والهدايا المقدمة للسياسيين والمسؤولين الحكوميين القائمين على رأس عملهم.
ومن بين أبرز الأحكام السابقة التي اعتُبرت أيضاً ضارّةً بكفاءة تطبيق قوانين مكافحة الفساد في المصالح العامة يأتي قرار المحكمة لعام 2016 الذي ألغى حكماً يدين حاكم ولاية فرجينيا السابق بوب ماكدونيل (Bob McDonnell) بالرشوة، إضافةً لحكمها الصادر عام 2010 الذي قيَّد بشدة استخدام المدَّعين العامّين قانون مكافحة الاحتيال في قضية الرئيس التنفيذيّ السابق لشركة إنرون (Enron)، جيفري سكيلينج (Jeffrey Skilling)، لتُساهم قراراتٌ كهذه -بالمُجمل- في تضييق التعريفِ القانونيّ لتهم الفساد، وتصعّب مهمة المُدّعين العامّين في إثبات الجُرم للحصول على إدانةٍ في هذه القضايا.
الحكم يسهّل سياسات “الدفع بغرض التلاعب”
تتمثّل إحدى أخطر تداعيات هذا الحكم في إمكانية فتح الباب أمام انتشار أشكالٍ علنيةٍ من اكتساب النفوذ السياسيّ عن طريق منح الأموال والهدايا، إذ سيُسهّل ذلك للشركات التوصّلَ إلى اتفاقاتٍ شفهيةٍ مع المسؤولين في الولايات والبلديات وتقديم هذه الإكراميات بعد الظفَر بالعقود. ويُشكل حكم المحكمة العليا سابقةً مفادُها عدم وجوب اعتبار هذه الإكراميات بمثابة رشاوى، وبالتالي سيُضفي هذا الحكم شرعية قبول الرشاوى للجهات التي تتمتع بذكاءٍ كافٍ للالتفاف على القوانين وسوابق الإدانة المحدودة والضعيفة للغاية.
وقد أكد القضاة المعارضون وسواهم من الخبراء القانونيين على أن تفسير الأغلبية يتعارض مع المقاصد الواضحة لقوانين مكافحة الفساد، ويرون أن التفريق بين الرشاوى والإكراميات بهذه الطريقة يخلق فرقاً مُصطنعاً قد يرقى لدرجة الإضرار بالمصالح العامة، كما برزت أيضاً مخاوف من ازدياد تهاوي ثقة العامة بالمؤسسات الحكومية إثرَ هذا القرار، فالسماح للمسؤولين بقبول هدايا أو مبالغ قيّمةٍ بعد اتخاذ قراراتٍ رسميةٍ قد يُساهم بخلق صورةٍ تسودها سياسة “الدفع بغرض التلاعب”.
يأتي هذا القرار في وقتٍ واجهت فيه المحكمة العليا بذاتها انتقاداتٍ بشأن قضايا أخلاقيةٍ تتعلق بقبول بعض القضاة هدايا ورحلاتٍ لم يتم الإعلان عنها، ما دفع بعض المراقبين إلى التساؤل عمّا إذا كانت تجاربهم الشخصية قد أثّرت على تفسيرهم للقانون.
الكونجرس والولايات قد يتخذان إجراءات لمنع تزايد حالات الفساد
في حال بلغ الغضب العام تجاه هذا الحكم درجةً كافيةً، يمكن للكونجرس في أيّ وقتٍ إجراء تعديلاتٍ على القوانين الحالية لتقديم إيضاحاتٍ إضافيةٍ تُساعد على التخفيف من الضرر الذي ربّما ألحقته المحكمة العليا بسيناريوهات إنفاذ القانون. ومع ذلك، فالقضية لم تحظَ باهتمامٍ إعلاميّ كبير، ومن المرجّح أن يتطلب الأمر عملاً حثيثاً لدفع المشرّعين لإقرار قوانين تسهّل إدانتهم شخصياً بقضايا الفساد.
بموازاة ذلك، قد تُجبر المجموعات الممثلة للقطاعات المحلية والخبراء القانونيون الولايات والبلديات على زيادة صرامة قوانينها وإرساء أحكام محدّدة توضّح متى يمكن اعتبار الهدايا العينية والمادية رشاوى لا لبسَ فيها.
خلاصة القول أنّ قرار المحكمة العليا بشأن نزاع سنايدر القضائيّ مع حكومة الولايات المتحدة يمثل تحوّلاً كبيراً في كيفية تفسير قوانين مكافحة الفساد العام ونهج تسيير القضايا، حيث أعادت المحكمة العليا هيكلة الإطار القانونيّ لمتابعة قضايا الفساد ضد المسؤولين الحكوميين والمحليين من خلال تضييق نطاق ما يمكن اعتباره رشوةً غير قانونيةٍ بموجب القانون الفيدرالي. وفي حين يرى مؤيدو القرار أنه يقدم مبادئ توجيهيةً أكثرَ وضوحاً ويحترم سيادة الدولة، يرى منتقدوه أنه يخلق ثغراتٍ خطيرةً يمكن استغلالها من قبل المسؤولين الفاسدين والشركات والأفراد السّاعين لتحقيق مآربهم الخاصّة.