أقرّ مجلس النواب الأمريكي هذا الأسبوع مشروعَ قانونٍ من شأنه وضعُ حدٍّ لجهود الاحتياطي الفيدرالي الرامية لإطلاق عملة البنك المركزي الرقمية (CBDC)، في دليلٍ واضحٍ على المخاوف المتزايدة لدى المشرّعين بشأن الخصوصية المالية، وحدود سيطرة الحكومة الأمريكية على قطاع المال في العصر الرقمي.
وصوَّت المشرِّعون يوم الخميس بأغلبية 216 صوتاً مقابل 192 من كلا الحزبين -ولكن بدعمٍ هامشيّ من الديمقراطيين- بالموافقة على قانون الدولة لمنع الرقابة على العملة الرقمية للبنك المركزي، والذي قدّمه عضو الأغلبية في مجلس النواب توم إيمر (Tom Emmer)، النائب الجمهوريّ عن ولاية مينيسوتا. ويحظر التشريعُ على الاحتياطي الفيدرالي إصدارَ عملة البنك المركزي الرقمية (CBDC) -أي الدولار الرقمي- مباشرةً للأفراد أو بشكلٍ غير مباشر من خلال وسطاء، دون الحصول على إذنٍ صريحٍ من الكونجرس.
يمكنكم أن تقرؤوا أيضاً: عملة البنك المركزي الرقمية ما تزال تفتقر إلى الشعبية: 16% فقط من الأمريكيين يبدون دعمهم لها
ويرى المؤيدون أن مشروع القانون ضروريٌّ لمنع المسؤولين غير المنتخَبين من تطوير “أداة مراقبةٍ ماليةٍ” يمكن أن تقوّض الحريات المدنية والقيم الأساسية للولايات المتحدة الأمريكية. ومع ذلك، يحذّر المنتقدون للقانون من كونِهِ قد يؤدي إلى خنق الابتكار وتعريض مكانة الدولار الأمريكي في مجال التمويل الدوليّ على المدى الطويل للخطر.
الأصوات ترتفع حول قضية الخصوصية المالية
اكتسبت فكرة عملة البنك المركزي الرقمية (CBDC) -وهي شكلٌ رقميٌّ من العملات التقليدية- جاذبيتَها في جميع أنحاء العالم مع زيادة تبنّي أساليب الدفع غير النقدي على نطاقٍ واسع. وحققت دولٌ أخرى، بما في ذلك الصين، تقدماً واضحاً في مشاريع إصدار هذا النوع من العملات. ويعتقد المؤيدون لهذه المبادرات أنها يمكن أن تؤدي إلى تسريع عمليات الدفع، والشمول الماليّ، وتسهيل تنفيذ السياسات المالية.
في المقابل، يخشى المعارضون -ومنهم النائب توم إيمر- من أن عملات البنوك المركزية الرقمية قد تمنح الحكومةَ الفيدرالية صلاحياتٍ غير مسبوقةً لمراقبة الشؤون المالية الشخصية و”خنق النشاط الذي لا يروق للحكومة”، ويشيرون إلى أمثلةٍ منها اليوان الرقمي في الصين، والذي يقال إنه يتم استخدامه لإنشاء درجات الائتمان الاجتماعي وضوابط الإنفاق، على الرغم من أن هذه الادعاءات -إذا ما صحّت- فهي غالباً مبالغٌ فيها.
وحذر إيمر خلال كلمته في قاعة مجلس النواب بالقول: “من السذاجة الاعتقاد بأن حكومتكم لن تستخدم الأدوات التي تمتلكها كسلاحٍ للسيطرة عليكم، وطالما أن الصين تتبنّى هكذا مشروع، فهذا يعني أنه أمرٌ يستحق الوقوف ضده”. وبالرغم من أن هذه الذرائع نابعةٌ من التوجهات الحزبيّة ومعاداة الصين كما يظهر، فمن المؤكد أن هناك بعض المخاوف التي يجب علينا جميعاً أخذها بعين الاعتبار عند إطلاق أية عملةٍ رقميةٍ للبنك المركزي، فمن المرجّح أن يسمح هذا الشكل من العملات للجهات الحكومية بمراقبةٍ وثيقةٍ للمدفوعات بجميع أنواعها (طالما أن الأشخاص/الجهات يستخدمون عملة البنك المركزي الرقمية)، وإذا ما كان هذا الشكل من النظام المالي قائماً على أسسٍ استبداديةٍ، فيمكنه أن يؤدي نظرياً إلى قيام الحكومات بتقييد وصول بعض الأشخاص إلى العملة.
لهذا السبب، يتحرّك الاحتياطي الفيدرالي بحذرٍ خلال دراسته للعملات الرقمية للبنوك المركزية، ويؤكد مراراً وتكراراً أنه لن يشرَع بإطلاق مثل هذا المنتج دون توفّر السلطة القانونية اللازمة. ومع ذلك، فإن موقف البيت الأبيض المؤيد لعملة البنك المركزي الرقمية (CBDC) والدعوات الأخيرة لضرورة التقدم بشأن هذه القضية دفع النائب إيمر وغيره إلى التصرّف بشكلٍ استباقي. ووضّح إيمر مبادرته بالقول: “تم تصميم مشروع القانون هذا لمنع الحكومة الفيدرالية من السير على خطى الأنظمة الاستبدادية التي تستغلّ العملات الرقمية لفرض مزيد من الرقابة”.
مشروع القانون يلقى تأييد عدد قليلٍ من الديمقراطيين
أيّد جميع الجمهوريين تقريباً في مجلس النواب مشروعَ القانون، إلا أنه لم ينل الدعم سوى من ثلاثة نوابٍ ديمقراطيين معتدلين فقط، وهم جاريد غولدن وماري بيلتولا وماري غلوسينكامب بيريز.
وتأتي معارضة أغلب الديمقراطيين لمشروع القانون هذا على خلفية مخاوفهم من إمكانية تقويضه للمركز الرياديّ للولايات المتحدة في الصناعة المالية من خلال حظره لابتكارٍ هامٍ يمكن تبنّيه بطريقةٍ أو بأخرى بهدف تسهيل المدفوعات وخفض تكاليف المعاملات.
وقالت النائبة ماكسين ووترز (Maxine Waters)، كبيرة الديمقراطيين في لجنة الخدمات المالية بمجلس النواب: “من خلال حظر جميع العملات الرقمية للبنوك المركزية، فإن مشروع القانون يهدّد مكانة الدولار الأمريكي والقوة التي يوفرها لأمتنا”.
وأكدت ووترز: “الدولار الأمريكي هو العملة الاحتياطية العالمية، وأكثر من نصف التجارة الدولية تتم بالدولار. لكنَّ العالم يحاول ابتكار طرقٍ جديدةٍ لتسريع المعاملات وخفض التكاليف، ومنها إصدار عملاتٍ رقميةٍ خاصةٍ بالبنوك المركزية للدول”.
وأضافت ووترز أن عدداً من الدول -بما في ذلك حلفاء للولايات المتحدة- تمضي قدُماً في تطوير العملات الرقمية للبنوك المركزية الخاصّة بها، في حين أن مشروع القانون هذا سيجعل من أمريكا “الدولة الوحيدة في العالم التي تحظر العملة الرقمية للبنك المركزي”.
في الوقت نفسه، أعرب محللون من مجموعة TD Cowen عن مخاوفَ مماثلةٍ، وقالوا في تقريرٍ صدر يوم الخميس الماضي: “نعتبر هذا الحظر سلبياً على الهيمنة العالمية للبنوك الأمريكية وعلى الدور العالمي للدولار الأمريكي، لأن الحظر سينطبق على البيع بالجملة وعلى استخدام المستهلكين أيضاً، ما قد يمنح اليورو أو العملات الأخرى التي تم رقمَنَتها أفضليةً لاستخدامها في التجارة العالمية، وبالتالي فقد يفقد الدولار الرقمي المستقرّ قيمته إذا حدثت عملية استرداد واسعة، بينما لن يواجه اليورو الرقميّ مثل هذا التهديد”.
هل تُعد العملات المستقرة بديلاً أفضل مقارنة بعملات CBDCs؟
نظراً لغياب التوافق على دعم الحزبين، يخوض قانون منع الرقابة على عملات البنوك المركزية الرقمية (CBDCs) معركةً عبثيةً في مجلس الشيوخ الذي يسيطر عليه الديمقراطيون، إذ لم يُرفق به أيّ مشروع قانون؛ وحتى إن حصل على دعم هامشيّ من بعض النواب الديمقراطيين، فمن غير المرجّح أن يتم تمريره، إذ يمكن لمشاريع القوانين أن تتعرّض للعرقلة في مجلس الشيوخ، حيث يميل المشرّعون باستمرار لتأجيل عملية التصويت، وهو وضعٌ لا يمكن إنهاؤه إلا بتصويتٍ قسريّ لصالحه وبفارقٍ كبير، وهو ما يتطلبُ موافقة ثلاثة أخماس المصوّتين (بواقع 60 من 100 عضو بمجلس الشيوخ).
من جهةٍ أخرى، حتى وإن أقرَّ الكونجرس الأمريكي مشروع القانون، فلم يصدر من البيت الأبيض تلميحٌ بأنّ الرئيس الأمريكي بايدن سيوقع تشريعاً كهذا ليُصبح قانوناً سارياً، خاصّةً وأن إدارته معروفةٌ بتطلعها لتسريع الأبحاث وعمليات التطوير المتعلقة بإصدار عملةٍ رقميةٍ للبنك المركزي (CBDC). ومع ذلك، يمثل تصويت مجلس النواب انتكاسةً لطموحات الاحتياطي الفيدرالي المتعلقة بالعملات الرقمية، حيث يمكن لهذا التصويت منح الكونجرس إشرافاً قوياً، ويثير نقاشاتٍ عامةً حول التأثير المجتمعيّ لعملات CBDCs قبل إصدارها.
وفي المقابل، سبق أن أبدى الرئيس السابق والمرشح الجمهوري المحتمل دونالد ترامب عدم ارتياحه لنوعية المنتجات المالية هذه، حيث علق خلال تجمع حاشد في ولاية نيو هامبشر بقوله: “بصفتي رئيسكم، لن أسمح أبداً بإطلاق عملةٍ رقميةٍ للبنك المركزي… فهذا النوع من العملة سيمنح الحكومة الفيدرالية -حكومتنا الفيدرالية- السيطرة المطلقة على أموالكم”.
وفي سياقٍ آخر، أبدى الاحتياطي الفيدرالي عدم استعداده أو حتى عزمه اتباع هذا النهج، حيث سبق وعلق رئيس مجلس إدارته جيروم باول (Jerome (Powell في آذار/مارس الماضي بقوله: “إن آخر شيء نريده أو نتطلع إليه -نحن أعضاء الاحتياطي الفيدرالي- هو أن تكون لدينا حساباتٌ شخصيةٌ لكافة المواطنين الأمريكيين، أو أيّ منهم”؛ وشدَّد على أن “البنوك فقط هي التي تمتلك حساباتٍ لدى الاحتياطي الفيدرالي، وهذه هي الطريقة التي سنواصل العمل بها”.
يُذكر أن مشروع القانون المناهض لإنشاء عملة CBDC يمكنه أن يكون مفيداً في تبني العملات الرقمية الموجودة حالياً -كعملة بيتكوين (Bitcoin-BTC)- العاملة بشكلٍ لامركزيّ وغير الخاضعة لسيطرة الحكومة؛ فالطبيعة اللامركزية لهذه العملات الرقمية القائمة على البلوكتشين تجعلها خياراً جاذباً للأفراد ممّن يعارضون تزايد الرقابة الحكومية على مدّخراتهم الشخصية.
في مقابل ذلك، يؤمن آخرون بإمكانيات العملات المستقرة؛ فهي قائمةٌ على البلوكتشين ومرتبطةٌ بقيمة العملات النقدية، ويمكنها ملء الفراغ الذي سيخلفه عدم إطلاق عملات CBDCs إذا ما تم تصميمها بضماناتٍ مناسبةٍ للمستثمرين، بما فيها منح القدرة الكافية على الرقابة لجهات الإشراف المالي.
قطاع الكريبتو يشيد بتمرير مجلس النواب لمشروع قانون FIT21
فيما يعتبر البعض مشروع قانون منع الرقابة على عملة البنك المركزي الرقمية (CBDC) “مناهضاً للابتكار”، تأتي محاولة تمريره على خلفية توافق تاريخيّ بين الحزبين لتمرير تشريع قانونيّ آخرَ متعلقٍ بقطاع الكريبتو؛ وهو FIT21. ففي الوقت الذي يُعتبر فيه قانون الابتكار المالي والتكنولوجي للقرن الحادي والعشرين (FIT21) خطوةً أوليةً هامةً باتجاه تطوير إطارٍ تنظيم قانونيّ شاملٍ لقطاع الكريبتو فيما يتعلق بمنصات التداول وعروض الاستثمار وتسويق الأصول الرقمية داخل الولايات المتحدة، وقد أشادت جمعية البلوكتشين (Blockchain Association) -إحدى كيانات الضغط الرائدة في القطاع- بتمرير مشروع قانون FIT21، معتبرةً تمريرَه “لحظةً فارقةً ووسام إشادةٍ من الكونجرس الأمريكي بقطاع الكريبتو”.
ولعلَّ ما يبدو واضحاً هو أن اهتمام المشرعين بتنظيم قطاع الكريبتو يتزايد شهراً تلو الآخر، خاصّةً مع ضخ استثماراتٍ جديدة بمليارات الدولارات في القطاع سنوياً، الأمر الذي ربّما يتزامن مع الموافقة على إنشاء منتجاتٍ استثماريةٍ يسهل الوصول إليها ويمكنها توفير التعرّض للعملات الرقمية، خاصةً لأكثرها شيوعاً كعملتي بيتكوين وإيثيريوم (Ethereum-ETH).