الكرة الأرضية وتبرز منها يدان تحملان كيساً من المال وعلى جانبيها مبان مرتفعة وقبالتها رجال ببذلات يقفون بين أموال متكدسة، وأوراق نقدية ورموز الدولار تملأ الأجواء

في عالمنا اليوم، يتزايد ظهور المليارديرات من خلال عدد من المخططات المالية الذكية ضمن صناعةٍ جديدة تماماً يُطلق عليها اسم “إدارة الأصول”. واتسمت إدارة الأصول ذات يوم بكونها عملاً متخصصاً، غيرَ أنها باتت اليوم مجالاً يُسيطر من خلاله عمالقةُ الاستثمار على ما يزيد على 43 تريليون دولار من الأصول، أي ما يقارب ضعف الأصول التي تحتفظ بها البنوك الأميركية والبالغة 23 تريليون دولار. فكيف حدث هذا التحوّل الذي سمح لمديري الأصول بتكديس ثرواتٍ هائلةٍ عن طريق الاستحواذ على ملكية الأصول الاقتصادية لقطاعاتٍ حيويةٍ مثل الإسكان والبُنى التحتية؟

مخطط بياني يظهر حجم أصول مديري الأصول مقارنة بحجم أصول البنوك - المصدر: وول ستريت جورنال

جاءت بدايات ظهور مجال إدارة الأصول الحديثة ضمن طفرة الأسهم التي شهدتها عشرينيات القرن الماضي، عندما تم إنشاء أولى “صناديق الاستثمار” لإدارة أموال الأفراد الأثرياء، إلا أن إدارة الأصول لم تتحوّل من كونها عملاً تخصصياً صغيراً إلى قوة اقتصاديةٍ تمتلك الشركات وسوق العقارات والبُنى التحتية في جميع أنحاء العالم إلا في العقود الأخيرة. وفي الواقع، هناك عدّة عواملَ رئيسيةٍ أدت إلى هذه الطفرة الهائلة في هذا التخصّص خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وكان من أبرزها:

  • التشريعات الجديدة للمعاشات التقاعدية التي أدت إلى تعاظم رأس المال الاستثماري.
  • الاتجاه نحو الاستعانة بمصادرَ خارجيةٍ ما دفع المؤسسات إلى توظيف مديري الأصول بدلاً من توظيف المتخصّصين لديها.
  • توفير مديري الأصول صناديقَ استثماريةً بمؤشرات رسوم منخفضةٍ لجذب صغار المستثمرين.
  • توجيه مديري الاستثمار لاستثماراتهم نحو الأصول المادية مثل الإسكان والبُنى التحتية بدل الاكتفاء بالأسهم والسندات فقط.

وتحدّث بروس فلات (Bruce Flatt)، الرئيس التنفيذيّ لشركة Brookfield Asset Management في مقابلةٍ أجريت معه عام 2018 لتسليط الضوء على كيفية عمل هذه الشركات في الظلّ، بينما تمارس سيطرةً متزايدةً على عالم الأعمال قائلاً: “نحن نعمل وراء الكواليس، فلا أحد يعرف بأننا موجودون…”.

وأتت موجة الخصخصة في الثمانينيات والتسعينيات بمثابة فرصةٍ هائلةٍ لمديري الأصول لشراء المساكن والمرافق العامة والمطارات وغيرها من البنى التحتية المملوكة للحكومة بأسعارٍ زهيدة. وأصبحت شركاتٌ -مثل بلاكستون (Blackstone) التي أسسها ستيفن شوارتزمان (Steven Schwartzman) وشركة ماكواري (Macquarie) الأسترالية- شركاتٍ رائدةً في التعامل مع هذه الأصول المادية باعتبارها “فئة أصولٍ بديلةٍ” يتم تسويقها للمستثمرين الباحثين عن عوائد أعلى لاستثماراتهم.

واليوم، أصبحت أكبر شركات إدارة الأصول مثل بلاك روك (BlackRock) وفانجارد (Vanguard) وستيت ستريت (State Street) وفيديليتي (Fidelity) تسيطر على ما يزيد على 26 تريليون دولار من الأصول، أي ما يعادل الناتج المحلي الإجماليّ للولايات المتحدة بأكمله. مع ذلك، تضاعفت أصول صناديق الأسهم الخاصة والإقراض مثل بلاكستون و KKRوأبولو (Apollo) إلى 6 تريليون دولار في أربع سنواتٍ فقط، وهو ما يتجاوز بكثير حجم الأموال العامة.

أسواق مالية كبيرة لصغار المستثمرين

يعمل مديرو الأصول التقليديون الذين سيطروا على الاستثمار العام بقوةٍ على بناء شركاتٍ خاصّةٍ للأسهم والإقراض والعقاراتِ وغيرها من شركات الاستثمار البديلة ليصبحوا “متاجرَ ماليةً”، وهذا ما جعل معالم السوق ضبابيةً وسبَّب تركيز المزيد من الأصول والقوّة في أيدٍ قليلة.

فعلى سبيل المثال، أبرمت شركة بلاك روك صفقةً بقيمة 12.5 مليار دولار للاستحواذ على شركة إدارة الأصول البديلة Global Infrastructure Partners. وإذا ما تمت هذه الصفقة القياسية بنجاح، فإنها ستلد ستة مليارديرات جددٍ من الشركاء المؤسسين لشركة GIP المُستحوَذ عليها.

من جانبٍ آخر، يعمل مديرو أصولٍ آخرون على تطوير صناديقَ ومنتجاتٍ جديدة لبيع استثماراتٍ بديلةٍ مباشرةً للأفراد وصغار المستثمرين، وهي السوق التي كانت تقتصر في السابق على رأس المال المؤسساتيّ أو الأفراد من ذوي الثروات العالية؛ ويثير هذا المخاوفَ بشأن مدى الإفصاح الكافي عن المخاطر للمستثمرين غير المتمرّسين، والذين يشتركون في استثماراتٍ معقدةٍ وعديمة السيولة.

وقال تايلر كلوهيرتي من شركة ديلويت: “نحن ننتقل إلى منطقةٍ ضبابيةٍ مع تحوّل شركات إدارة الأصول إلى مجالاتٍ مستحدثةٍ من الخدمات المالية، والسؤال الكبير الذي يفرض نفسه الآن هوَ: ما الذي نفعله بتقديم البدائل لصغار المستثمرين؟ فالأمور هائلة التعقيد هنا”.

ثروة المليارديرات من الاستثمارات البديلة

لقد أدّى النمو الهائل في الاستثمارات الخاصة ضمن أسواق الأسهم والعقارات والبنى التحتية وصناديق الائتمان إلى ظهور عددٍ من المليارديرات الجدد أكثر من أي صناعةٍ في السنوات الأخيرة. فوفقاً لمجلة فوربس، احتل مديرو صناديق الأسهم الخاصّة 41 مركزاً في تصنيفات أصحاب المليارات من الأمريكيين في عام 2023، ما يمثل 5.5% من إجمالي عدد المليارديرات المُدرَجين في القائمة، وهي نسبةٌ تضاعفت تقريباً خلال عقدٍ من الزمن.

ويتوقع مؤسسو الشركات العملاقة في مجال إدارة الأصول البديلة مثل بلاكستون وأبولو وكيه كيه آر (KKR) أن تتضاعف الأصول الخاضعة للإدارة الخاصة في شركاتهم مجدّداً في غضون سنواتٍ قليلةٍ من خلال التوسّع في سوق المستثمرين الأفراد، وهو ما سيؤدي إلى ظهور المزيد من المليارديرات. وقد بات الخبراء يتخوّفون من احتمالات بروز مخاطرَ لم تواجهها الأسواق من قبل في ظلِّ هذا التعاظم في الطبيعة المعقدة للاستثمار وتضخّم حجم المؤسسات.

صناعة إدارة الأصول تقتل الناس… حرفياً

رغم وعودهم بتقديم عوائد استثماريةٍ أعلى، واجه مديرو الأصول انتقاداتٍ بشأن التأثير المجتمعيّ المترتِّب على ملكيتهم لقطاعات الإسكان والمرافق العامة والبُنى التحتية التي كانت عموماً مملوكةً للدولة بشكلٍ مباشرٍ أو خاضعةً لتنظيمها على الأقلّ.

ووَجدت دراسةٌ أجريت عام 2021 في نشرة المكتب الوطنيّ للبحوث الاقتصادية (The Digest) أن احتمالية وفاة المرضى في دور رعاية المسنين المملوكة لشركات إدارة الأصول هي أعلى بنسبة 10% مقارنةً بدور الرعاية المشابهة المُدارة لأهدافٍ ربحيّة. وخَلَص الباحثون إلى أن “نحو 20,150 أمريكياً فقدوا حياتهم بين عامي 2004 و2016 بسبب ملكية شركات إدارة الأصول لهذه الدور”، نتيجةً لتدابير خفض التكاليف وقرارات التسعير التي اعتمدتها هذه الشركات لزيادة أرباحها.

وإلى جانب التكاليف المرتفعة وتدهور الجودة بالنسبة للعملاء الذين باتوا أسرى لهذه الشركات، نجد أيضاً مخاطرَ هائلةً ناشئةً من صميم طبيعة هذه الصناعة، حيث أن بضع شركاتٍ عملاقةٍ تحتكر ملكية نسبةٍ كبيرة من الاقتصاد. ومن المتوقع أن يؤدي تحويل الأصول الحيوية إلى مجالات استثمارٍ ربحيةٍ، والهوّة بين مصالح مديري الأصول والمجتمعات التي تخدمها مشاريعهم إلى عواقبَ وخيمةٍ في حال أدت الاضطرابات الاقتصادية إلى المساس بأموال هذه الشركات، وفي حال سقوط واحدٍ فقط من هؤلاء العمالقة، فقد يؤدي ذلك إلى انهيار الاقتصاد العالميّ برمّته معه.

أزمة المناخ تُسرّع الخصخصة

واصلت الحكومات الضغط من أجل خصخصة البنية التحتية، وغالباً ما شجّعت ذلك عبر دعم رأس المال الخاص، حيث تعتمد سياسات معالجة التغير المناخيّ على المبادرة إلى إنشاء مشاريع الطاقة المتجدّدة الجديدة، وخطوط النقل، وغير ذلك من المشاريع ذات الصلة.

وفي هذا الإطار، وجّه قانون خفض التضخّم الذي أقرّه الرئيس بايدن مليارات الدولارات من أموال الضرائب لتحفيز الاستثمار الخاص في البنية التحتية المناخية، في خطوةٍ مماثلةٍ للخطة المقترحة من جانب حزب العمال في المملكة المتحدة لدفع مديري الأصول للمساهمة بتمويل التحوّل في مجال الطاقة.

وممّا لا شك فيه أن الشركات العملاقة مثل بلاك روك (Blackrock) وبروكفيلد (Brookfield) تقوم بجمع الأموال مجدّداً للسيطرة على مشاريع الطاقة النظيفة على مستوى العالم، حيث بدأت مبادرة “شراكة تمويل المناخ” التابعة لشركة بلاك روك -والمحدّدة بمبلغ 673 مليون دولار- بجمع الأموال من بنوك التنمية والمجموعات الخيرية، حيث وضعت المشاريع المناخية ضمن أولوياتها الاستثمارية، في مثالٍ يجسّد مخاطر الخصخصة وإضفاء الصفة الربحية على مثل هذه المشاريع المستقبلية.

اقرؤوا أيضاً: الاكتتابات العامة الأولية المخصّصة: هل تودي النخبةُ الجديدة بالمستثمرين الصغار إلى المجهول؟

ومع تركيز شركات إدارة الأصول بشكلٍ متزايد وبوتيرة متسارعةٍ مشاريعهم على مجالاتٍ تسمح لهم بتوسيع نطاق ملكيتهم لقطاعات الإسكان والنقل والطاقة وغيرها من القطاعات الحيوية من خلال السياسات المناخية، فإن تركيز السيطرة -وما يترتب عليها من تداعياتٍ على التكاليف ونوعية الحياة والاستقرار الماليّ- قد يصل إلى مستوياتٍ غير مسبوقةٍ إذا تُركت الأمور دون ضوابطَ تضمن توازنها.

ولتحقيق ذلك، فقد بدأ المشرّعون باقتراح تدابيرَ تنظيميةٍ مثل شروط الإفصاح المحدَّثة لخطط رسوم الصناديق الخاصة. مع ذلك، فالمراقبون ما يزالون يرون ضرورةً لوجود رقابة أقوى من ذلك بكثير، بما يضمن حماية المصلحة العامة، نظراً لاستحكام قبضة مليارديرات إدارة الأصول على البُنى التحتية الحيوية، رغم أنهم يضعون حصاد الأرباح -قبل كلّ شيء- على رأس سلّم أولوياتهم.