تهاوت سمعة فيسبوك إلى مستوياتٍ سحيقةٍ جديدة بعد أن أعطت منصّة التواصل الاجتماعي الشهيرة الأولوية مجدّداً للأرباح على حساب الخصوصية وسلامة المستخدمين وفقاً لمجموعةٍ جديدة من الوثائق المُقدّمة إلى المحكمة، والتي فجرت مفاجأةً بعد الكشف عنها هذا الأسبوع. وتتضمّن الملفات تفاصيل لمخططٍ متقنٍ استمرَّ لسنواتٍ سُمّي “Project Ghostbusters” يُزعم أن فيسبوك قامت من خلاله بتطوير برامج تجسّس سريةٍ لاعتراض وفك تشفير الاتصالات المشفّرة الخاصّة بالتطبيقات والخَدَمات المنافسة مثل سناب تشات (Snapchat) ويوتيوب (YouTube) وأمازون (Amazon).
وتمّ استقاء هذه المعلومات من مراسلاتٍ ومذكراتٍ داخليةٍ مُرسلةٍ عبرَ البريد الإلكتروني وإفادات الشهود التي تم الإعلان عنها كجزءٍ من دعوى قضائيةٍ مستمرّة لمكافحة الاحتكار تزعم أن منصات شركة ميتا (META) -الشركة الأم لفيسبوك- أساءت استخدام هيمنتها على القطاع في محاولاتٍ لإعاقة عمل الشركات المنافسة لها بشكلٍ غير نزيه.
وإذا ما ثبتت صحة هذه الادعاءات، فإن الممارسات المُوضَّحة في مشروع Ghostbusters يمكن أن تشكل انتهاكاتٍ خطيرةً لقوانين مكافحة التجسس الفيدرالية وقوانين الولايات، وقوانين الاحتيال الحاسوبيّ، والإجراءات الناظمة لخصوصيّة البيانات.
والأخطرُ من ذلك أن هذه الوثائق تشير بشكلٍ مباشر إلى مؤسس فيسبوك ومديرها التنفيذيّ -مارك زوكربيرغ (Mark Zuckerberg)- باعتباره المشرف على تنسيق هذه العملية ومنح الموافقة على برنامج المراقبة الرقمية وسرقة الأسرار التجارية للمنصّات المنافسة.
أصول “مشروع Ghostbusters“
تُظهر رسائل البريد الإلكتروني التي تم الكشف عنها مؤخراً أن جذور مشروع Ghostbusters تعود إلى حزيران/يونيو لعام 2016، عندما أعرب زوكربيرغ عن مخاوفه من افتقار فيسبوك إلى تصوّر واضح لمقاييس وتحليلات قاعدة مستخدمي تطبيق سناب تشات Snapchat المتنامية بسبب استخدامه نُظُم تشفيرٍ لحماية اتصالاته.
وكتب زوكربيرغ في رسالة بريد إلكتروني بتاريخ 9 حزيران/يونيو من عام 2016 موجهةٍ إلى خافيير أوليفان، نائب الرئيس لشؤون التنمية في فيسبوك آنذاك قائلاً: “عندما يسأل أحدهم سؤالاً حول سناب تشات، فإن الإجابة عادةً هي أنه ليس لدينا تحليلاتٌ عن حركة مرور البيانات الخاصّة بهم لأنّها مشفرة”. وأضاف: “نظراً لمدى سرعة نموّهم، يبدو مهماً اكتشاف طريقةٍ جديدة للحصول على تحليلاتٍ موثوقةٍ عنهم”، ثم أصدرَ زوكربيرغ بعد ذلك أمراً مباشراً لأوليفان بقوله: “يجب عليك معرفة كيفية القيام بذلك”.
لجأ أوليفان بسرعة إلى فريقٍ في أونافو (Onavo)، وهي شركةٌ إسرائيليةٌ لتحليلات الهاتف المحمول استحوذت عليها فيسبوك عام 2013، وقال بأنه كان “يبحث في هذا الأمر مع فريق Onavo” وتحدث أوليفان عن احتمال أن يدفعوا للمستخدمين مقابل “تثبيت برمجيةٍ ثقيلةٍ حقاً” (يمكنها اعتراض المحادثات وفكّ شفرتها، أو ما شابه ذلك)”.
الحلّ: فك تشفير حركة مرور المستخدمين
خلال الشهر التالي، وضع موظفو شركة Onavo خطةً سريةً لتطوير برمجيةٍ خفيةٍ يمكن تثبيتها على أنظمة التشغيل أندرويد وiOS لاعتراض وفك تشفير الاتصالات من وإلى خوادم تطبيق سناب تشات قبل تشفير البيانات، وتوضّح رسالة بريدٍ إلكترونيّ داخليةٌ تعود إلى تموز/يوليو لعام 2016 النهج الفنيّ المقترح كما يلي:
“لقد قمنا بتطوير نماذج برمجيةٍ يُمكن تثبيتها على نظامي التشغيل iOS وأندرويد والتي يمكنها اعتراض حركة المرور لنطاقاتٍ فرعيةٍ محدّدةٍ ما يسمح لنا بقراءة حركة المرور المشفّرة، ويمكّننا من قياس استخدامها داخل التطبيق (وتشمل هذه الحركة أيّة إجراءاتٍ يقوم بها المستخدمون عبر التطبيق، وليس فقط زياراته الإجمالية)”، وهو نهجٌ يقوم على “اعتراض المحادثات وفك شفرتها”، وذلك وفق المحادثات الكتابية التي كشفت عنها وثائق المحكمة.
ومن خلال وضع برنامج تجسّس بين أجهزة المستخدمين وتطبيق سناب تشات، تمكّن فريق فيسبوك من انتحال صفة تطبيق Snapchat الرسميّ وخوادم التحليلات من خلال تقنيةٍ تُسمّى “SSL Bumping” التي تُوهم هواتف المستخدمين بأنها تتواصل مع تطبيق Snapchat (SNAP) في حين أنه -حقيقةً- يتم اعتراض بياناتهم المشفرة وفك تشفيرها ونسخها إلى خوادم فيسبوك.
وإذا بدا لكم هذا الأمر جنونياً، فأنتم لستم وحدكم في ذلك. فتطبيق فيسبوك وغيره من مواقع التواصل الاجتماعي الأخرى يودون فعلاً جَمع أكبر قدرٍ ممكنٍ من بياناتكم دون الإضرار بتجربة الاستخدام، ولكن غالباً دون تثبيت برامجَ سريةٍ لسرقة بياناتكم من تطبيقٍ آخر.
باختصار، فالمزاعم تتهم فيسبوك باعتراض اتصالاتٍ يُفتَرض بقاؤُها سريةً، وبفك تشفير هذه المعلومات السرية واستخدامها للحصول على ميزة تنافسيةٍ بطريقةٍ غير نزيهة.
مشروع Ghostbusters تجسَّسَ على يوتيوب وأمازون أيضاً
ركّز مشروع Ghostbusters في البداية على اختراق تطبيق سناب تشات، إلا أن الوثائق التي تمَّ الكشف عنها تشير إلى أن أساليب المراقبة غير القانونية هذه تم توسيعها لاحقاً لتشمل تطبيقي يوتيوب بدءاً من عام 2017 وأمازون (AMZN) منذ عام 2018، حيث سعت فيسبوك بقوةٍ للحصول على معلوماتٍ -بطريقةٍ استخباراتيةٍ- حول كيفية تفاعل المستخدمين مع مجموعةٍ متزايدةٍ من الشركات المنافسة.
ففي إحدى رسائل البريد الإلكتروني التي تتّسم بالوقاحة، أقرّ أحد خبراء فيسبوك الإستراتيجيين بأن الصعوبات التنافسية التي يواجهها سناب تشات كانت تعود جزئياً -على الأرجح- إلى التغييرات التي نفّذتها شركة التواصل الاجتماعي فيسبوك بعد النتائج التي توصلت إليها بفضل استخدام برمجيات شركة Onavo في إطار مشروع Ghostbusters. بمعنى آخر، كانت فيسبوك تستخدم البيانات المسروقة كسلاحٍ لتقويض أعمال سناب تشات من خلال استنساخ ميزاته الأساسية.
وفي غضون أشهر من إطلاق مشروع Ghostbusters عام 2016، سارعت شركة فيسبوك بالفعل إلى طرح منتجٍ مُقلَّد خاصٍ بها يسمى قصص إنستجرام (Instagram Stories)، يُحاكي إمكانات المراسلة المؤقتة الخاصة بتطبيق سناب تشات.
وحول تأثير تلك الخطوة، كشف أحد مسؤولي شركة سناب تشات أن أسلوب تقليد الميزات الذي تتبعه فيسبوك -والمستمدّ من البيانات التي تم جمعُها سرّاً- أضعفَ قدرة شركته على تحقيق ربحيةٍ بشكلٍ فعّالٍ من خلال الإعلانات على منصتها.
فيسبوك كانت على درايةٍ بعدم قانونية عملية التجسس التي قامت بها
مع أن مشروع Ghostbusters نشأ بتوجيهاتٍ مباشرة من زوكربيرغ وشارك فيه كبار المسؤولين التنفيذيين مثل أوليفان وآخرين، فإن الوثائق التي تم الكشف عنها تؤكد أن البرنامج لم يكن مقبولاً بالإجماع داخل أروقة فيسبوك. ويُظهر عددٌ من الرسائل أن رئيس قسم الهندسة الأمنية لدى الشركة في ذلك الوقت، بيدرو كاناهواتي (Pedro Canahuati) قد اعترض بشدةٍ على التجسّس الرقمي غير الأخلاقي لأسبابٍ قانونيةٍ وأخلاقية.
وبهذا الخصوص، كتب كاناهواتي في إحدى رسائل البريد الإلكتروني عام 2017: “لا أستطيع التفكير بحجةٍ مُقنِعة تبرّر هذا الأمر”، مضيفاً: “لا يمكن لأي متخصصٍ أمنيّ أن يشعر بالارتياح تجاه هذا الأمر، بغضّ النظر عن الموافقة التي نحصل عليها من عامة الناس، فالعامة لا يعرفون كيف تسير هذه الأمور”.
في الواقع، تقودنا هذه الفكرة إلى نقطةٍ في غاية الأهمية، فربّما تكون فيسبوك قد وضعت شروط خدمتها بحيث يوافق مستخدموها على هذا النوع من التجسّس، لكنّ هذا لا يعني جواز هذا الأمر. بالتأكيد لا أحد -باستثناء بعض خبراء الأمن السيبراني- يقرأ شروط الخدمة الخاصّة بمنصةٍ ما، لما تتطلبه من جهدٍ كبير من قبل المستخدمين. والأسوأ من ذلك هو أنها تكون مكتوبةً بلغةٍ تقنية أو قانونيةٍ لن يفهمها عامة الناس حتى لو قرؤوها.
يمكنكم أيضاً الاطلاع على: مقارنةٍ لأفضل 12 تطبيق تجسّس على الهواتف لعام 2024
وأعرب جاي باريك -نائب رئيس هندسة البنية التحتية في فيسبوك حينها- عن مخاوفَ قانونيةٍ مماثلةٍ بشأن تقنية “اعتراض المحادثات وفك شفرتها”، والتي تم استخدامها في إطار مشروع Ghostbusters، إلا أن التحذيرات ذهبت أدراج الرياح على ما يبدو، حيث تُظهر الأدلة الدامغة أن مشروع Ghostbusters استمرَّ بالتجسس على الشركات المنافِسة حتى عام 2019 تقريباً عندما توقف المخطط فجأةً بسبب عمليات الاستقصاء الصحفي وتدقيق الجهات التنظيمية بشأن جمع البيانات وممارسات الخصوصية لدى فيسبوك.
ففي أوائل عام 2019 وعند ظهور المخاطر القانونية والمخاطر المتعلقة بالعلاقات العامة لمشروع Ghostbusters، تمت استشارة زوكربيرغ نفسه بشأن ما إذا كان سيتم إنهاء مبادرة التجسس هذه، وفي حين أن محتوى المناقشات ما يزال سرياً، غيرَ أنه من الواضح أن مخاطر الانتهاكات القانونية المحتملة للبرنامج كانت جليّةً تماماً لإدارة فيسبوك، إذ أعرب أحد مسؤولي شركة فيسبوك السابقين عن أسفه إزاء وثائق المحكمة بالقول: “نظر كبارُ المسؤولين التنفيذيين الهندسيين في الشركة إلى برنامج IAAP (مشروع Ghostbusters) باعتباره كابوساً قانونياً وتقنياً وأمنياً”.
ميتا تواجه مخاطر قضائية هائلة
قد تتسبّب فضيحة Project Ghostbusters لميتا -الشركة الأم لفيسبوك- بعواقبَ كارثيةٍ على عدة جبهات، ويتمثل أهم هذه المخاطر في الملاحقة الجنائية من قبل وزارة العدل الأمريكية بسبب انتهاكاتٍ محتملةٍ لقوانين التنصّت الفيدرالية وتلك الخاصّة بالولايات؛ إلا أن الأمر قد لا ينتهي عند هذا الحد، فإذا ما ثبت قيام فيسبوك بالتجسّس على مستخدمين خارج الولايات المتحدة، فقد تواجه مخاطرَ قضائيةً في الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة وغيرها.
وتوضّح الوثائق المشار إليها ممارساتٍ قد تمثل انتهاكاتٍ لعدّة قوانين، مثل قانون التنصت الفيدراليّ الذي يحظر “اعتراض” المراسلات الإلكترونية عمداً دون موافقةٍ مسبقة.
واتهم المدّعون فيسبوك بشكلٍ مباشرٍ بالتصنّت غير الشرعيّ عبر مخطط Project Ghostbusters من خلال التجسس وفك تشفير الرسائل الموجهة للخوادم الآمنة ليوتيوب وسناب شات ومنصّاتٍ أخرى، وقد تتيح هذه الاتهامات للشركات المتضرّرة بشكلٍ مباشرٍ من أنشطة التجسس هذه فرصة رفع دعاوى مدنيةٍ ضد ميتا حول التعدي على الملكية الفكرية وانتهاك قانون الاحتيال وإساءة استخدام الكمبيوتر، والذي يحظر الوصول غير المصرّح به عبر أجهزة الحاسوب لتقويض بروتوكولات الأمان.
وبالنظر لقاعدة مستخدمي فيسبوك واسعة الانتشار حول العالم، يُرجّح أن الشركة قامت بانتهاك خصوصية مئات ملايين المستخدمين عبر Project Ghostbusters دون علمهم أو موافقتهم، وإذا ما ثبت قيام فيسبوك بانتهاك خصوصيّة جزء كبير من قاعدة مستخدميها، فقد تُفلس الشركة بسبب إلزامها بدفع قيمة التسويات الجماعية.
اقرؤوا أيضاً: قوانين جديدة تهدّد إيرادات خدمات آبل السنوية البالغة 85 مليار دولار
كذلك قد تواجه ميتا مشاكلَ تنظيميةً وغراماتٍ وعقوباتٍ بسبب برنامج التجسّس السريّ من قبل لجنة التجارة الفيدرالية (FTC) ومكاتب المدعين العامين في ولاياتٍ عديدة، والتي تمتلك صلاحيات إنفاذ قوانين خصوصيّة البيانات وحماية العملاء.
وتخضع الشركة حالياً لعمليات تدقيقٍ تتعلق بمنع الاحتكار بسبب ممارساتٍ غير تنافسيةٍ مزعومةٍ تسبّبت بتقويض خصوصية المستخدمين وقمع المنافسة؛ وفضلاً عن ميتا، تُواجه العديد من كبريات شركات التقنية المنافسة مخاطرَ تُهدّد وجودها في دعاوى مكافحة الاحتكار هذه.
فبعد أن ثبت تورط ميتا بسرقة أسرار شركاتٍ منافسة، قد يتعيّن على الشركة بذل جهود مضنيةٍ للدفاع عن نفسها في مواجهة مزاعم انتهاكها قوانين مكافحة الاحتكار.
فضائحُ مدويّة متواصلة تتعلق بالسمعة
فضلاً عن مأزق المساءلة القانونية، قد يكون الضرر الأكبر الذي تحصّلت عليه ميتا هو تدهور سمعتها وموثوقيتها لدى المستخدمين والمشرّعين والمسوّقين؛ وقد يتسبّب إدراك عموم المستخدمين أن فيسبوك تنتهك خصوصيتهم على نطاقٍ واسع بشكلٍ متعمّد ومُمَنهج للتفوّق على الشركات المنافسة بفضائحَ أخلاقيةٍ مدوية.
وممّا يزيد المخاوف المتعلقة بالمحاسبة ومسارات عمل الشركة هو تنفيذ مخطط Project Ghostbusters لعدّة سنواتٍ وبإشرافٍ مباشر من زوكربيرغ وكبار مساعديه -حتى بعد اعتراض بعض العاملين لدى الشركة على شرعيّة نهجها- ما يكشف تبني الشركة -وعلى أعلى المستويات- ثقافة عدم احترام الآخرين والتربّح بأيّ ثمن.
وبالنظر لتضرّر سمعة فيسبوك بالفعل بسبب فضائحَ متعلقةٍ بخصوصية البيانات -كفضيحة شركة البيانات Cambridge Analytica- يُرجّح أن تتسبّب الفضائح المتعلقة بمخطط Project Ghostbusters بأزمة ثقةٍ أخرى قد تعاني ميتا كثيراً للتعافي منها مجدّداً.
ومن المعلوم أن الثقة هي الميزة الأساسية التي توفر إمكانات النموّ لشركات التواصل الاجتماعي القائمة على الإعلانات -كشركة ميتا- إلا أن ثقة المستخدمين في منصة فيسبوك تتراجع بشكلٍ سريع وسط انتهاكات خصوصيةٍ متتاليةٍ وممارساتٍ غير تنافسيةٍ وعدم اكتراث قياداتها بالمعايير والحدود الأخلاقية.
ومع تكشّف تفاصيل المعضلة القضائية حول Project Ghostbusters، قد يتمثل أكبر المخاطر التي تهدّد وجود ميتا في المحاسبة المجتمعيّة لقاء تمكينها فيسبوك من امتلاك سلطةٍ مطلقةٍ والتورّط في أنشطة تجسسٍ غير شرعية؛ وحتى لو نجحت الشركة بتجاوز الدعاوى القضائية والرقابة التنظيمية، فلن ينسى أحدٌ انتهاكها خصوصيّة المستخدمين بشكلٍ مُخزٍ وتحايلها الرقميّ على الشركات المنافسة.